كتاب 11

01:21 مساءً EET

فقيدنا تركي بن عبد العزيز

غيب الموت يوم الجمعة الماضي، الشخصية السعودية الفذة، الأمير تركي بن عبد العزيز آل سعود، والمكان الذي تركه شاغرًا إثر موته يصعب على غيره شغله لما تميز به من خصال نادرة في هذا العصر؛ نهجه في الحياة، إطلالته الدائمة والمفعمة بالمحبة هي محل امتنان جميع الذين اعتبروه رمزًا للوفاء الأصيل. وكما هو معروف، يرتبط غرض الوفاء ارتباطًا وثيقًا بقيمة أخلاقية مهمة من قيم الدين الإسلامي الحنيف. ظل مسكونًا بهموم الآخرين حتى نسي همومه وأنكرها.
لن تمر وفاته بسهولة على وطن يقف مقدرًا أبناءه البارزين، ولا شك أن الراحل في مقدمتهم. سلك طريقين؛ الأول رسمي بشغله منصب أمير الرياض، ثم نائبًا لوزير الدفاع والطيران والمفتش العام، وترك أثرًا لن يمحى. خصاله الإنسانية طغت على الطابع الرسمي لعمله، فجعلته مسؤولاً وأميرًا فريدًا من نوعه. أما الطريق الثاني الذي سلكه، فهو غير الرسمي. حين تخفف من منصبه الحكومي وراح يقتفي أثر مكارم الأخلاق ويتبعه أينما حل، مضى في هذا الطريق حتى النهاية فاسحًا المجال للآخرين كي يتحدثوا عن سجاياه ومواقفه الجليلة. حين أكتب عن قامة بحجم الراحل، وأنا أحد الشهود على عصره، أشعر ببعض الخجل، لأني مدرك تقصيري لإيفائه حقه في هذه العجالة، لكن عزائي ما قاله الشاعر أمل دنقل: «.. نثقب ثغرة ليمر النور للأجيال.. مرة!».
كان يتحدث في مجلسه الغاص بضيوف التفوا حوله من كل أطياف المجتمع السعودي من حاضرة وبادية. كنت طفلاً أزور ابنه فيصل في مطلع السبعينات الميلادية، أصغيت إلى حديثه المليء بالقيم الأصيلة والمرويات التراثية الشائقة، فراق لي. في زيارة تالية وجدت مجلسه غاصًا أيضًا.. أدركت بعد سنوات أن هذا المجلس ينعقد طوال اليوم وكل يوم تقريبًا، أينما حل في المملكة أو خارجها.. كأن هذا الرجل – الأمير تركي – سخر حياته للقاء الناس وإدخال السرور إلى قلوبهم. الآن وبعد رحيله رحت أتأمل مغزاه، وأحسب أنه على سليقته كما ورثها عن آبائه وأجداده، حين سخروا حياتهم للناس بصدق ووفاء فبادلوهم ذلك وزادوا الحب والولاء الراسخ، رغم الطفرات الهائلة التي مرت بها المملكة. ولعل الناس بعد رحيله المفجع سوف تكتشف الأثر العميق الذي تركه الأمير تركي على صفحات تاريخ المملكة التي بادلها حبًا ذا شجون. ولو قلبَ المهتمون في المستقبل صفحات التاريخ فلن يجدوا مثله إلا قلة.. ولو وضعنا نفس المعايير لتسليط الضوء على شخصيات قد تكون طليعية ذات تأثير في عصرها، فسيكون بطبيعة الحال الأمير تركي – رحمه الله – في مقدمة فرسانها.
أتذكر ما حكاه لي والدي – رحمه الله – عن مآثر الأمير تركي الذي ارتبط به منذ أربعينات القرن الميلادي الماضي حين تزاملا في مدرسة الأمراء ومقرها قصر الحكم بالديرة، واصفًا إياه: «المثابر على إرضاء الآخرين، والحريص دائمًا على كل ما يتعلق بشؤون الصيد والفروسية»، ويستدرك والدي: «يتصف الأمير تركي بشخصية متزنة وسخية بلا حدود، يحافظ على حبل المودة موصولاً مع معارفه حتى لو انقطعوا عنه لأي سبب». كما قال فيه قصيدة كان مطلعها: «تركي اللي سندني في زمن الجفاف/ أمطرت غيمته في حياتي نهر». والقصيدة ظاهرة محاكاة لكل من عرف الأمير تركي رحمه الله. ويضيف في بيتها الثاني: «تركي اللي مع من توقف وعاف/ صار في عصر تركي موكب للفخر».
نحن في هذا المجتمع البسيط شغوفون كمجتمعات أخرى بنقل ما يطيب لنا من حكايات يرويها من سبقونا لنبقيها حية يانعة يتلقفها أبناؤنا، ليصنعوا منها صورًا أكثر حداثة لوطن كان الراحل الأمير تركي أحد المشاركين في ترسيخ شخصيته ورسمها.
وبقدر ما للفقيد من حضور طاغٍ وجذاب، فسيكون الألم مضاعفًا على ذويه، ولا يفجع الروح ويفطر الفؤاد مثل الفقد، إنه أكثر الأحزان والآلام إيغالاً في الروح والجسد، ذلك أن طعمه المر يغص به المفؤود ليل نهار، ولا يستطيع التعايش معه أو استيعابه، وأكثر مرارات الفقد تجليًا هو الموت بكل أشكاله.. هذا القدر المتربص بالإنسان في كل لحظة، النازل عليه نزول الصاعقة، الزائر المباغت الذي يدخل ساعة يشاء دون استئذان، يأخذ ما يريد ومن يريد وينصرف مخلفًا حالة من الذهول والصمت والعي، وسكون ما بعد العاصفة.. الموت، هذا الحكم الإلهي المبرم ولا يميز بين واحد وآخر.. هو الحقيقة المرة التي تذكرنا في كل لحظة بعجزنا وضعفنا ومسكنتنا، وقدرة الخالق علينا، وقهره لنا، كبيرنا وصغيرنا، القوي منا والضعيف، العظيم فينا والذليل، الحاكم والمحكوم. لكن خالد وفهد وفيصل وسلطان وعبد الرحمن وأحمد – بمشيئة الله – قادرون على حمل أمانة والدهم الراحل. وهم الذين بقوا ملازمين له كظله طوال حياته، ولديهم من خصاله النبيلة ما يعزي ويخفف من مصيبة والدتهم وأخواتهم المحتسبات للأجر والثواب في هذه المصيبة التي ألمت بنا جميعًا بفقداننا الأمير الأب الحنون تركي، وداعًا ونم مستريحًا ليرحمك الله ويسكنك الجنة يا أبا خالد.

التعليقات