كتاب 11

02:38 مساءً EET

محمد بن نايف: مفهوم صناعة الأمن!

كان لافتًا جدًا في الأيام الماضية الإشادة العالمية بجهود الأمير محمد بن نايف، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية السعودي، في مكافحة الإرهاب المنظم، ودعم الجهود الدولية، لا سيما في مجال الاستخبارات وتبادل المعلومات حول الخلايا الإرهابية في مختلف مناطق العالم، الأمر الذي ساهم في منع كثير من الكوارث عبر التفوق السعودي في تحويل مفهوم الأمن من رد الفعل إلى صناعة لها مبادئها واستراتيجياتها التي لم تكن وليدة اللحظة؛ بل عبر اختبار وسباق طويل منذ بدايات تأسيس المملكة، وحتى اللحظات المفصلية التي شهدتها ضد الإرهاب والعنف المسلح؛ مرة عبر حركات تمرد داخلية قبل ظهور «القاعدة» و«داعش»، وتارات مع الإرهاب الشيعي المسيّس التابع لنظام طهران عقب الثورة الخمينية، إضافة إلى الإرهاب الفوضوي الذي بات سمة المرحلة بعد صعود تنظيم داعش الذي ألغى مفهوم الشبكية، وحول الإرهاب إلى تحد جديد عبر تكوين خلايا صغيرة وبعثها في اللحظة الملائمة لاستراتيجية العنف الجديد «إدارة التوحش»، عبر خلق مناطق توتر للاستقطاب والتجنيد والتدريب، إضافة إلى بعث الخلايا واستهداف الدول المستقرة لإحياء الشق الدعائي والتحشيدي لأفكار التنظيم الإرهابية.
قبل أيام توجت هذه الإشادة العالمية بولي العهد السعودي بتكريم من قبل استخبارات الولايات المتحدة، من خلال منحه الجائزة الأولى من نوعها؛ «ميدالية جورج تينيت»، في توقيت مهم جدًا في سياق العلاقات السعودية – الأميركية، التي كان يروج كثيرون أهواءهم حولها عبر افتعال أزمات؛ سواء في مسألة ملف «جاستا»، أو التكهنات بالعهد الأميركي الجديد مع ترمب؛ رجل التصريحات والوعود الإشكالية التي أربكت المحللين في قراءتها.
والحال أن هذا النوع من الإشادة الأميركية يعبر عن مرحلة جديدة في العلاقات الأميركية – السعودية على الصعيد الأمني والاعتراف بالدور المركزي السعودي في أمن العالم وليس الإقليم فحسب، وهو دور لم يأتِ من فراغ؛ بل عبر تضحيات جسام قادتها «الداخلية»، ممثلة في رأس هرمها الذي تعرض لعدة محاولات اغتيال فاشلة، كان أبرزها في قصره بعد أن أصر على منح مزيد من الفرص لمن يريد العودة إلى الاعتدال والنجاة من براثن الجماعات الإرهابية.
صناعة الأمن منتج سعودي خاص وفريد في التعامل مع الإرهاب بأشكاله كافة، وكان في البداية محل شك واستغراب دوائر بحثية غربية كثيرة، فلم يكن أحد ليتصور أن استراتيجية «القوة الناعمة» التي دشنها الأمير محمد بن نايف، عبر رفع شعار «المواجهة الفكرية» القائمة على مبدأ المناصحة والإقناع للمتطرفين والمغرر بهم، ستؤتي أكلها، كما أنها، في الوقت ذاته، تتيح بقاء خيارات الحلول الأمنية متى ما تعذر الوصول إلى حلول لجان المناصحة التي، على الرغم من حداثة التجربة والنقص والأخطاء التي ترافق أي مشروع من هذا النوع، تحولت إلى نموذج فريد تتسابق مراكز الأبحاث لدراسته عن كثب، كما أن عددا من الأسماء البحثية المرموقة في مجال الإرهاب زارت مراكز المناصحة وكتبت عنها ملاحظات إيجابية جدًا؛ منهم الصديق البروفسور توماس هيغهامر مؤلف كتاب: «قصة تنظيم (القاعدة في جزيرة العرب)»، وقد التقى عددًا ممن دخلوا مراكز المناصحة وخرجوا إلى الحياة العادية بعد أن ولدوا من جديد، ومُنحوا فرصة استئناف حياة مختلفة، بعد أن عانوا من التطرف طويلاً، وربما لو كان قدرهم الوقوع رهن الاعتقال في مكان آخر من مناطق التوتر، أو حتى غوانتانامو، لكان مصيرهم أسوأ بكثير.
نتذكر قبل سنوات كيف تقدمت «الداخلية» بخطوات كبيرة في إطار الانتقال من العمل البيروقراطي إلى تفعيل الأنظمة إلكترونيًا، ورافق ذلك حملات اجتماعية آتت أكلها وأعادت مفهوم الشراكة الأمنية بين المواطن ورجال الأمن، وكانت رمزية دعاية اللاعب الخلوق أحمد الفريدي، وعبارة «المواطن رجل الأمن الأول»، تشير إلى تحول كبير في النظر إلى أهمية الأمن في ظل شرخ كبير تعيشه المنظومة الأمنية في البلدان العربية وعلاقتها بالمجتمع على خلفية إرث الثمانينات في الصدام بين الجماعات المتطرفة والحكومات وما نتج عنه من اعتقالات، إلا أن الوضع في السعودية كان مختلفًا. وإذا كانت الأرقام لا تكذب، فليس سرًا أن أقل من 4 في المائة من إجمالي الذين دخلوا برامج المناصحة، وهم بالمئات، عادوا إلى تجربة التطرف مجددًا، وهناك من مُنح الفرصة أكثر من مرة، كما أن حجم الإنفاق على المستفيدين من برامج الوزارة أكثر من 49 مليون ريال للمعتقلين، وللمطلق سراحهم 77 مليون ريال، والعائدين من غوانتانامو 10 ملايين ريال، والفئة الضالة 35 مليون ريال، ورواتب خاصة للمستفيدين 222 مليون ريال، وهو ما آمن به الأمير محمد بن نايف، بوصفه جزءًا من الاستثمار في الإنسان السعودي، وعدم النظر لمن وقع في براثن التطرف بمعيار واحد.
إن حجم الضرر الذي طال العالم من الإرهاب كبير جدًا وفادح، وهو الأمر الذي يتطلب، بحسب تصريح ولي العهد عقب الجائزة، «مسؤولية دولية مشتركة، تتطلب تضافر الجهود الدولية على جميع الأصعدة لمواجهته أمنيًا وفكريًا وماليًا وإعلاميًا وعسكريًا».

التعليقات