كتاب 11

11:45 صباحًا EET

نكبة «داعش»

تقترب القوات العراقية، بدعم التحالف الدولي، من تحرير الموصل من قبضة «داعش»، وبذلك تكون المدينة الثانية في العراق قد حررت من العصابة الإجرامية. ولكن من المبكر الإعلان عن الانتهاء التام من نكبة «داعش». فمن الناحية الأمنية، تبقى مناطق أخرى مثل الحويجة محتلة من قبل «داعش» بينما مناطق محررة مثل الساحل الأيسر من الموصل ومناطق في تكريت تتعرض لهجمات متتالية من مسلحي «داعش». ومن المتوقع أن يعاني أهالي تلك المناطق التي طردت «داعش» من أشد هجمات التنظيم، بعد أن كان مقاتلوه يعولون على أوهام الطائفية بأن تقربها من هؤلاء وتضمن بقاءها، وهذا كان رهاناً خاسراً منذ البداية، فتصرفات «داعش» بعيدة كل البعد عن أخلاقيات المجتمع العراقي وطبيعته. ومثلما صرح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في خطابه أمام الجامعة الأميركية في السليمانية الأربعاء الماضي، فإن «(داعش) قتلت من أهل السنة أكثر من أية فئة أخرى في العراق».
أما الرهان الخاسر الثاني لـ«داعش» فكان أن العراق لن يستطع أن يعيد بناء قواته لمواجهتها، وقد أثبتت قوات مكافحة الإرهاب والفرقة الذهبية أن عناصر الجيش العراقي – ونسبة غير قليلة من قياداته الحالية خدموا في الجيش العراقي ما قبل 2003 – قوات وطنية تدافع عن شعبها. وبالإضافة إلى قيامها بمحاربة «داعش»، يشرح قائد قوات مكافحة الإرهاب العراقية الفريق طالب شغاتي، فإن الجيش العراقي أيضا يشرف على عمليات الإجلاء من الأحياء المكتظة بالمدنيين والتي أصبحت ساحات قتال تشبه الحرب العالمية الثانية. وفي الواقع هذه مهام إضافية إلى الجيش في وقت تقاتل قواته على أصعدة عدة. وبالطبع، فإن الدعم الخارجي من خلال القوات الأجنبية كان ضرورياً، بالإضافة إلى دور القوات الكردية (البيشمركة) وبعض عناصر الحشد الشعبي.
العمل العسكري مستمر لهزيمة تنظيم داعش، ولكن لا يمكن الحديث عن «بشرى» الانتصارات. فأين البشرى في تهديم مدن مثل الموصل والرمادي، وأين البشرى لمن فقد عزيزاً أو أكثر من بين العسكريين أو المدنيين؟ هناك فرصة، نعم، لإعادة توحيد الصف الوطني في العراق ولكن ليس لدينا ما نحتفل به من هذه المعارك، فالقتلى والجرحى من المدنيين والجيش بالآلاف، وبيوت عائلات كثيرة دمرت بينما البنى التحتية رجعت عقوداً إلى الوراء. فهل يعقل أن دولة غنية مثل العراق يعتمد مواطنوها على حفر آبار في حدائقهم للحصول على المياه، كما فعل من استطاع ذلك في الموصل؟ وهل يعقل أن ننتظر ممن تهجر وترك خلفه كل ما يعتز به وكل ما يملكه ويجد نفسه في خيمة داخل وطنه أن يكون مسروراً؟ بالطبع، طرد «داعش» من العراق كله لحظة مهمة ينتظرها كل العراقيين وكل من يحرص على العراق، ولكن سقوط مدن عراقية بيد «داعش» أساساً كانت نكبة وجريمة يجب معاقبة المسؤول عنها. بناء على أحاديث مع عدد من القيادات العسكرية في العراق، أكد بعضهم أن سقوط تلك المناطق جاء بسبب قرار سياسي من بغداد عام 2014 بعدم الدفاع عن تلك الأراضي العراقية. ولا يمكن لعسكري أن يقوم بالقتال إذا كان قائده، قد أعطاه أمراً بإخلاء موقعه، وحينها كان القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. هذه قضية أساسية يجب ألا تترك من دون حساب وإلا نكبات العراق الأمنية والعسكرية لن تنتهي.
اليوم، رئيس الوزراء العبادي، ومعه قيادات عسكرية مثل الفريق ركن عبد الوهاب الساعدي قائد عمليات نينوى، استطاعوا أن يقدموا صورة وطنية للجيش العراقي أعادت ثقة الكثير من الأوساط العراقية في الجيش، وحرصوا على عدم ظلم ضحايا «داعش» من سكان المناطق التي احتلها التنظيم، بتوجيه تهم زور لهم بأنهم مسؤولون عن وجود التنظيم. على العكس، فقد صرحوا مراراً بأن أهالي الموصل وغيرها من مدن عراقية احتلها «داعش» ساعدوا القوات العراقية على هزيمة التنظيم. ولكنه لا يروق لمن يريد تلطيخ سمعة السنة العرب في العراق سماع مثل هذه التصريحات، مفضلين عملية إقصاء سياسية قد تجلب المزيد من الويلات على العراق والمنطقة إن لم يكن هناك توجه عراقي إقليمي دولي لمنع ذلك.
المرحلة المقبلة قد تكون عصيبة، مثل المراحل التي سبقتها من ويلات الحروب والحصار والديكتاتورية. وقائمة التحديات تطول، وعلى رأسها معالجة الدمار الواسع الذي طال مدناً رئيسية في العراق. ويقدر مسؤول عضو في لجنة إعادة الإعمار العراقية أن كلفة إعادة إعمار المناطق المحررة من «داعش» تبلغ 50 مليار دولار، على الرغم من أن الرقم المعلن عنه من قبل الحكومة العراقية 35 مليار دولار. وفي الكثير من الحالات، كما في الفلوجة وأحياء من الموصل المهملة، هذه العملية ستكون «إعماراً» وليس «إعادة إعمار» بسبب السنوات الطويلة من الإهمال. كما أن عملية الإعمار ستستغرق نحو سنتين، من غير الواضح أين سيسكن خلالها مئات الآلاف من العائلات النازحة من المدن والقرى المنكوبة. وفي بعض الأحياء، قرر المدنيون العودة وترميم الأشياء البسيطة من بيوتهم ولكن بطريقة عشوائية ترغب الحكومة في تجنبها.
ولكن الدمار الحقيقي هو للناس أنفسهم. فمشاهدة الجثث في الشوارع أصبحت أمرً يومياً، وسماع دوي التفجيرات والحرمان من المواد الغذائية طال الملايين في الموصل. وبعض الفتيات لم يخرجن من بيوتهن خلال السنتين ونصف السنة الماضية إلا للضرورة القصوى – للعلاج مثلا أو لتقديم واجب العزاء، وغيرهما من الأوامر والنواهي الصارمة وهي ظاهرة بعيدة كل البعد عن المجتمع العراقي، مثل تدريس المدارس مناهج تتصدرها الأحقاد والعنف.
إن علاج المجتمع والإقرار بمدى معاناة كل مكوناته لن يكون بالأمر السهل، خاصة مع تنافس فصائل سياسية ومسلحة على «غنائم» الإعمار ومحاولة إخفاء «نكبة داعش» من خلال المبالغة في الاحتفال بهزيمتها.

التعليقات