أفضل المقالات في الصحف العربية

10:56 صباحًا EET

مصر: الفَكرة الثالثة بعد السكرة الثالثة!

السكرة الأولى جاءت مباشرة بعد إعلان نائب الرئيس المصري السابق عمر سليمان تنحي الرئيس السابق محمد حسني مبارك عن الحكم. احتفل المصريون لأسابيع، وعادت الأغاني الوطنية للتلفزيونات والإذاعات المحلية. وسيطرت الأحلام على الواقع، وفاقت التوقعات القدرات والإمكانات. لبس الجميع العباءة التي صنعها إعلام جمال عبدالناصر في خمسينات القرن الماضي، وصاروا يتغنون بمصر العظيمة، أم الدنيا ومركزها، ملتقى كل الدروب الكونية. وصار العالم، كل العالم (بيتعلم مننا ومن ثورتنا العظيمة)، وظن (المسؤول ورجل الشارع) أن مصر القوية، المؤثرة، المكتفية اقتصادياً، على بعد مرمى حجر.

وبعد أسابيع قليلة، ظهرت الفكرة الأولى، وبدأ الواقع يستعيد الزمام مرة أخرى، وتفرّق «المجتمعون على الإطاحة بحسني مبارك» إلى شؤونهم التي تعنيهم، وصارت لكل منهم طريقة وهدف. وخضع حلم الاقتصاد للحقيقة المرة على الأرض، وأطلت إشكالية البيضة والدجاجة برأسها في مسألة رئيس الدولة والدستور، وأيهما يأتي أولاً. وأصيب المواطن بخيبة أمل كبيرة، إذ لم يتحسن الاقتصاد ولم يتغير وضعه المعيشي، ولم يحظ بحكومة منتخبة يعقد عليها الآمال المستقبلية. وبقي العسكر في اللعبة، لكن «الجيش المصري العظيم» الذي كان يُرمى بالورود وحبات الرز في شباط (فبراير) ٢٠١١، صار مغتصِباً للسلطة، و «يسقط يسقط حكم العسكر»!
استمرت حال عدم التوازن أشهراً، وأصبح الوضع من السوء، بحيث صار تمكن مقارنته بالأوضاع الاقتصادية والسياسية التي سبقت ثورة ٢٥ يناير. وفي ظل هذه الأجواء الغائمة والمستقبل المجهول، تم انتخاب الرئيس السابق محمد مرسي على «الفلولي» السابق أحمد شفيق، فعادت السكرة من جديد في نسختها الثانية، واهتزت الميادين، وعادت الأغاني الوطنية لوسائل الإعلام من جديد، وظن عوام المصريين أن هذا الحدث سابقة تاريخية لمصر، وعلى العالم، كل العالم أن يتعلم منها. وصار الكل يردد «يا حبيبتي يا مصر يا مصر».
بدأ الرئيس المؤمن في نسج الوعود، وبناء الأحلام، فانساق خلفه الإخواني والقومي والشيوعي واليساري والمسيحي. خرج إلى الميادين ليلقي الخطب، فصفقت الأكف المصرية على اختلاف توجهاتها وصاحت الحناجر «تحيا مصر».
لكن كان لا بد من فَكرة ثانية. فمحمد مرسي الرئيس المؤمن لم يستطع (ربما) التخلص من الالتزامات التي تفرضها عليه عضويته في جماعة «الإخوان المسلمين»، وصار مجرد مندوب للمرشد في القيادة المصرية، وبدلاً من العمل على بناء مصر باستخدام مرجعيته الإخوانية، اتجه إلى تعزيز حضور تنظيمه وخلق أسباب (الحياة الدولية) له، اعتماداً على خزائن مصر وثرواتها ومقدراتها. جعل من الدولة خادمة للتنظيم، وهو الذي كان يُفترض به أن يوظف رؤية وخبرة الجماعة في الصعود بمصر إلى القمة التي تستحقها.
عمل على «أخونة» الدولة لأشهر، واستبدل الكفاءات والتكنوقراط بالولاءات «الإخوانية»، ورسم سياسة مصر الخارجية اعتماداً على متطلبات جماعته، لا الصالح المصري العام. آمن بالديموقراطية التي جاءت به إلى الحكم، وكفر بالديموقراطية التي تفرض مبدأ تداول السلطة. جاء مرسي ممثلاً لـ «الإخوان» إلى قصر الاتحادية، لكنه أقفل الباب خلفه رافضاً أي «فعلٍ ديموقراطي» تلا انتخابه.
وهنا كان لا بد من خلق أسباب سكرة ثالثة! ظهرت حركة «تمرد» إلى الوجود، وهي النسخة الثالثة من التحرك الشعبي السابق للسكرات، بعد «٦ أبريل» و «التجمع ضد الفلول». وبدأت في حشد المؤيدين لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وخرج الملايين إلى الشوارع والميادين في ٣٠ حزيران (يونيو)، ثم دخل الجميع نشوة السكرة بعد إعلان الجنرال عبدالفتاح السيسي عن خلع مرسي وإيداعه السجن وتعطيل العمل بالدستور «الإخواني» وتنصيب رئيس المحكمة الدستورية عدلي منصور رئيساً موقتاً للبلاد وتشكيل حكومة موقتة برئاسة الاقتصادي حازم الببلاوي.
عادت مصر الحلم (التي يتعلم العالم منها) وصدحت الأغاني الوطنية من جديد، مع بعض التركيز على مقولات وطنية للشيخ محمد الشعراوي، كي يفهم المعارضون لخلع مرسي أن ما حدث ليس انقلاباً على الإسلام، وإنما ثورة على من يستخدم الدين لغايات دنيوية، وتسابقت التلفزيونات المحلية على إبراز تأثير مصر العظيم في مجريات الأحداث العالمية، وأن لا عالم بلا مصر!
واليوم وأنا أكتب هذه المقالة، ما زال المصريون يعيشون أجواء السكرة الثالثة، وسيدخلون عمّا قريب الفكرة الثالثة، وعليهم إذا ما أرادوا أن تمر هذه الفكرة عليهم برضا شعبي أن يمنعوا الأسباب المؤدية لخلق سكرة رابعة، وذلك من خلال الآتي:
أولاً: الخروج من عباءة إعلام عبدالناصر، وتقويم الحجم والوضع الطبيعي لمصر سياسياً واقتصادياً حالياً، إذ لا يمكن أن أبني بلدي من الصفر وأنا أشعر بأنها «البلد العظيمة التي لم يوجد مثلها في البلاد». الخضوع للواقع أول الحلول، والخطط المبنية على دراسات حقيقية لواقع الحال هي اللبنة الأولى لأخذ مصر إلى المكانة التي تستحقها بين الأمم.
ثانياً: عدم تقديس الجيش ورموزه والاندفاع خلف تنزيهه وتبجيله ورفعه عن مستوى الحياة اليومية للأمة المصرية بمكوناتها كافة. شكراً لعبدالفتاح السيسي، لكنه يظل وزيراً في حكومة الببلاوي تحت رئاسة عدلي منصور، ولم يكن السيسي ليفعل ما فعل لولا اتحاد المؤسسة الدينية (ممثلة في الأزهر والكنيسة) وقوى المعارضة المختلفة وشباب السكرة الثالثة. الأمم هي التي تخلق طغاتها حتى ولو لم يختر الطغاة أن يكونوا كذلك. وما عبدالناصر إلا مثال حي للطاغية المولود من رحم دعم الشعب! وما الجيش المصري الذي يمثل اقتصاد المؤسسات التابعة له ثلث الاقتصاد المصري تقريباً إلا نتيجة حتمية لمسيرته الفوقية الطويلة منذ زمن عبدالناصر وحتى تنحي حسني مبارك!
ثالثاً: على المصريين أن يعوا أن الديموقراطية ليس لها وجود تاريخي في الوجدان المصري العام، وبالتالي فإن محاولة وضعها بتطبيقاتها كافة موضع العمل مباشرة أمر في منتهى الخطورة. يحتاج المصريون أولاً إلى تفعيل آلياتها وسوابقها في المجتمع المصري، ومن ثم الركون إليها كطريقة حكم. يستطيع المصريون أن يبنوا ديموقراطيتهم الخاصة من غير الخضوع لانتخابات الأفراد التي تجيء بنواب المال الفاسد وتجار الدين ومنتجات العصبيات، ومن غير الخضوع كذلك للقوائم الانتخابية في بلد تقوم الكثير من الأحزاب فيه على مفهوم: الحزب أولاً والدولة ثانياً. عليهم إن أرادوا النجاح أن يفعلوا ويعتمدوا طريقة جديدة تضمن وجود الرجل المناسب في المكان المناسب.
ليحمِ الله مصر، ولتبقَ الثالثة ثابتة.

التعليقات