كتاب 11

01:25 مساءً EET

100 عام على سياسة «العصا» الأميركية

قبل مائة عام، وتحديداً في السادس من أبريل (نيسان) 1917، اتخذت أميركا قراراً باستخدام قوتها العسكرية للتدخل لأول مرة في نزاع خارجي، وذلك عندما صوت الكونغرس بطلب من الرئيس وودرو ويلسون لصالح قرار إعلان الحرب على ألمانيا. هكذا دخلت أميركا الحرب العالمية الأولى، وحدث أكبر تحول في سياستها الخارجية، وفي رؤيتها لدورها وقوتها العسكرية على الساحة الدولية. كثير من المؤرخين والدارسين يعتبرون ذلك التاريخ بداية ظهور أميركا كقوة عظمى على المسرح الدولي، وبداية تغير في تفكيرها ونظرتها، بشكل أثر وما يزال على مجريات الأمور في العالم، سلباً أو إيجاباً.
قبل ذلك التاريخ كانت أميركا محكومة بسياسة العزلة، للنأي بنفسها عن أوروبا ومشاكلها وحروبها، وبـ«عقيدة مونرو» التي جعلت دور قوتها محدوداً في الدفاع عن أراضيها، وفي التصدي لمنع العالم القديم (القوى الأوروبية القديمة) من التدخل في العالم الجديد (أميركا الشمالية والجنوبية). الحياد كان هو النهج الذي اختاره الرؤساء الأميركيون الذين أرادوا سياسة خارجية نشطة مثل ثيودور روزفلت الذي منح جائزة نوبل للسلام لدوره في الوساطة بين روسيا واليابان لوقف الحرب بينهما عام 1905، حتى وودرو ويلسون الذي قاد أميركا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، فضل الوقوف على الحياد في البداية، ولم يدخل الحرب إلا بعد ثلاث سنوات على اندلاعها، وبعدما فشلت مساعيه في إقناع ألمانيا بعدم التعرض للسفن التجارية وخطوط التجارة بين أوروبا وأميركا. وقد يكون مفاجئا لكثيرين أن ويلسون كان أول رئيس أميركي يسافر في مهمة رسمية خارج الولايات المتحدة، وذلك عندما توجه في عام 1919 إلى باريس للمشاركة في مؤتمر السلام وإعلان نهاية الحرب.
سياسات أميركا مرت بكثير من المنعطفات منذ ذلك التاريخ، لكن شهيتها للبقاء قوة عظمى في الساحة الدولية بقيت مفتوحة، وتعززت بشدة خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية. صحيح أنه حدثت مراحل كانت فيها دعوات للعودة إلى سياسة الانكفاء مثل الفترة التي أعقبت ويلسون، عندما تولى الرئيس وارين هاردينغ الذي خاض الانتخابات تحت شعار «أميركا أولاً»، لكن ذلك لم يؤدِ إلى إعادة أميركا إلى حظيرتها، أو تحجيم رغبتها في ممارسة دور القوة العظمى والتلويح بالعصا الغليظة.
اليوم يدور نقاش حول سياسات أميركا، ويتساءل كثير من الناس عما إذا كانت شعارات الرئيس دونالد ترمب تعني أن الولايات المتحدة ستعود إلى سياسة الانكفاء ونهج العزلة، وما إذا كانت هذه السياسات ستسهم في دفع العالم نحو مرحلة أكثر اضطراباً وخطورة. ففي أوروبا يرى البعض أن ترمب بنهجه العدائي إزاء الاتحاد الأوروبي، ومطالبته أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) بزيادة إنفاقهم العسكري والالتزام بتسديد حصصهم المالية إذا أرادوا التمتع بمظلة الحماية الأميركية، إنما جعل القادة الأوروبيين يشعرون بضرورة التكاتف وتعزيز التقارب فيما بينهم لحماية مصالحهم. أكثر من ذلك بدأت أصوات أوروبية تتحدث عن أهمية تشكيل جيش أوروبي، بينما حذر بعض المعلقين من أن ألمانيا إذا بدأت تشعر بحاجة للتفكير في إيجاد طريقة تصبح بها قوة نووية للتعويض عن المظلة النووية الأميركية، فإن المسؤول عن ذلك هو ترمب.
الأوروبيون لا يشعرون فقط بالقلق من موقف ترمب إزاء اتحادهم، ورغبته في رؤيته يتفتت، خصوصاً مع أزمة خروج بريطانيا، بل يتخوفون أيضاً من الغزل بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي يسعى لإعادة بناء دور روسيا وقوتها على الساحة الدولية، وتمر علاقاتهم معه بفترة توتر شديد بسبب الأزمة الأوكرانية. وهناك من يرى أن ترمب يقوم بمخاطرة كبرى في أوروبا، لأنه يراها كمنافس من منطلق أنها أكبر كتلة تجارية في العالم، أكثر مما يراها كحليف مهم في التوازنات الدولية.
سياسات ترمب تشعر أيضاً حلفاء أميركا وخصومها في آسيا بالقلق. فالصين التي أصبحت المنافس الأول لأميركا ومكانتها، تراقب بلا شك تحركات الإدارة الأميركية، لا سيما أن ترمب خصها بكثير من تصريحاته وتغريداته العدائية، وآخرها كان اتهامه لها بالسكوت عن استفزازات كوريا الشمالية وتجاربها النووية. في ظل هذه الأجواء المتوترة تنظر اليابان وكوريا الجنوبية نحو أميركا للحصول على تطمينات بأن مظلتها العسكرية باقية، لكنهما في الوقت ذاته لا تريدان رؤية مواجهة عسكرية من أي نوع بين العملاقين.
أميركا ترمب تثير حيرة العالم وقلقه بمزيج من الشعارات والسياسات المتناقضة؛ فهي من ناحية ترفع شعارات توحي وكأنها تريد الانكفاء على ذاتها، ومن ناحية أخرى تعلن أنها تعزز قوتها العسكرية لتضمن تفوقها، وتقول إنها ستلاحق «داعش» والإرهاب في كل مكان.
الواقع أن أميركا على الرغم من شعارات إدارتها الحالية، لا تبدو قادرة أو مستعدة للانسحاب من الساحة الدولية، فشهيتها للبقاء القوة العظمى ما تزال كما كانت عندما خرجت بقوتها العسكرية إلى الساحة الدولية قبل مائة عام.

التعليقات