آراء حرة

09:25 صباحًا EET

د. زيد بن علي الفضيل يكتب: سؤال الحيرة الإبراهيمي؟

في كل مرة أتلو فيها قول الله تعالى :‏{وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين(فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين(فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين(فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون(إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين}(الأنعام: 76 – 79)
أشعر بحالة من الاستغراق في التفكير التأملي في مضمون تلك الصور الفنية وما تحمله في طياتها من أسئلة جوهرية ، يتم من خلالها تفكيك مقاييس التفكير المادي ضمن أفاق الذهن البشري المحسوس ، بأسلوب تصويري محكم ، ولغوي رصين ، اعتمد مبناها الفلسفي على مفهوم إثارة أسئلة الحيرة والدهشة في أذهان المتحاورين ، ونقض ما يتم التعارف عليه من بديهيات معرفية ، فرضتها قوانين اجتماعية وأعراف بشرية وربما تصورات علمية خاطئة . في تلك الآيات وضح هذا المفهوم التفكيكي لكل المفاهيم التلقينية المحنطة في الأذهان ، بتأثير من حالة الجمود المُذكـِّر بنمط تفكير أهل الكهف من جهة ، وحالة الاتباع المُفرط لما كان عليه الأقدمون بوجه عام ، العاكس لنمط التفكير الآبائي المتمثل في قوله تعالى :{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءَنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} (البقرة:170).

لقد جاء النص القرآني السالف على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام ، ليضع قومه بما يحملونه من أفكار دينية خاطئة بحكم الجمود والاتباع المقيت ، أمام مرآة كاشفة لحالة التضارب المنطقي في جوهر كل المسلمات البديهية التي آمنوا بها ، حيث وبتسلسل فني متقن قصير ، وعبر ممارسة التفكير بصوت عال من خلال إثارة بعض من أسئلة الحيرة ، كشف لهم جوهر الخلل في مكمن إيمانياتهم ، التي تقوم على عبادة المظاهر المحسوسة للكواكب ، المختلفة صفاتها من كوكب إلى آخر ، وبالتالي انعدام قطعية المسلمات البديهية لكل صفة محسوسة ، كالكبر والبزوغ واستمرارية الوجود الظاهري .

إننا ونحن نستشعر هذه المعاني العقلية والمفاهيم العميقة ، لفي أمس الحاجة إلى أن نعكس هذا النمط في التفكير ضمن أفاق حياتنا العملية ، وقواعد سلوكنا البشري ، حتى نخرج من حالة الجمود الذهني المعاش ، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالعودة إلى مقاييس التفكير السليم ، المستندة على تحفيز التفكير التأملي ، ومراجعة ما يمكن أن نتصورة من بديهيات قطعية ، والتعود على إثارة أسئلة الحيرة أو الدهشة في عقولنا ، والبحث في أشكال السؤال اللامُفكر فيه ، ونحن إن مارسنا مثل هذه السلوكيات ، لن نكون بدعا عن غيرنا من مختلف الشعوب المتقدمة ، كما أننا لن نكون بمنأى عن جانب من حالة التطور الذهني الذي عاشته الحضارة الإسلامية في مرحلة سالفة ، حين جسَّد أبناؤها بوعيهم مختلف المفاهيم الفكرية للنص القرآني ، فكانوا في تأمل ذهني دائم لكثير من ضروب الحياة ، ومراجعة مستمرة لعديد من التصورات التي يُظن بأنها من البديهيات القطعية ، وإثارة كلية للعديد من أسئلة الحيرة ، وبحث فريد عن السؤال اللامفكر فيه ، الذي يعد الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان من أبرز من تناوله باقتدار ، حين تخيل أجوبة علمية لمسائل غير مطروحة في الساحة المعرفية في حينه ، وكان مؤدا كل ذلك أن ارتبط ذكر المسلمين بوصفهم مجتمعا حضاريا مفكرا ، بالعديد من الاكتشافات العلمية والنظريات المعرفية التي كان لها أثرها في تطور العلوم والمعارف الإنسانية .

على أنه وبمجرد تخلي المجتمع المسلم عن مضامين آليات التفكير تلك ، وركونهم في فترات لاحقة إلى مفاهيم تلقينية تستند على تكريس آلية الحفظ كنمط رئيسي في التفكير ، بل وانسياقهم التام بعد ذلك إلى تبجيل ثقافة الحفظ في مقابل الإرزاء بثقافة التأمل وإعمال التفكير العقلي ، حتى أصبح الحفظ بوصفه وسيلة معرفية سمة عالية يُوصف بها الإنسان العالم ، كعلامة بارزة على مبلغ علمه ، وهو ما تشير إليه افتخارا دلالات الألفاظ الوصفية لأبرز العلماء المسلمين في ذاكرتنا الحالية ، لتصبح صفة “الحافظ” بمثابة شهادة التزكية لكل من يمتهن العلم الشرعي على وجه الخصوص ، في الوقت الذي غُيب فيه ومنذ تلك الفترة المبكرة مفهوم وصف “المفكر” للدلالة على من يلوك العلم ويتكلم فيه ، على الرغم من أن لفظة “مفكر” تتسق مع كثير من آيات الذكر الحكيم ، المؤكدة على ذلك بشكل مطلق ، الداعية إلى إعمال التفكر والنظر والتدبر، فالقرآن الكريم في المقام الأول خطاب عقلاني مع الذات الإنسانية ، ومع أشرف ما في الإنسان وهو العقل .

ولاشك فقد كان لطبيعة الازدهار المعرفي الناتج عن تسيد أفاق مدرسة التفكير وإمعان النظر والتحليل ومداومة القراءة التأملية الاستنباطية ، أن برز في الأفق الإسلامي صرحين معرفيين كبيرين وهما : بيت الحكمة في بغداد ، ودار الحكمة في القاهرة ، الذي تفتق عن ظهورهما على الساحة بروز العديد من العلماء المصنفين في فنون المعرفة الإبداعية ، سواء في المجال الأدبي أو العلمي أو الفلسفي ، الذين لم يكتفوا بخاصية النقل والحفظ وحسب ، بل وأعملوا وجدانهم وعقولهم للتفكر والتدبر ، والبحث بعمق في الدلالات والمآلات لمختلف الأشياء ، ومن هنا كان بروزهم على الساحة العالمية ، وظهور ما يعرف بالعالم الشمولي الموسوعي ، الذي تميز بعقله العربي الناضج ، لا من حيث فهمه وفقهه بعلوم الشعوب والحضارات الأخرى وحسب ، بل ومن حيث إسهامه فيها وإضافاته الجديدة لها ، كما هو الحال مع العديد من العلماء المبدعين كالخوارزمي في علم الجبر ، وجابر بن حيان في علم الكيمياء ، وغيرهم في مختلف العلوم اللغوية والدينية ومباحث الكلام والتاريخ والطب والفلك والرياضيات . وكان من نتائج ذلك أيضا أن توسعت مدارك وعي الإنسان المسلم خلال تلك المرحلة بتوسيع ثقافة المعرفة لديه ، لتشمل مختلف حواسه وهي : البصرية بالقراءة ، والسمعية بالصوت ، والإدراكية بالفهم ، والعقلية بالتحليل ، والاستنتاجية بالإبداع في تطوير ثقافة السؤال ضمن ثنايا معرفته . فهل يسعنا كمجتمع معاصر أن نطور من ثقافة الوعي بأهمية سؤال الحيرة الإبراهيمي ؟ كبداية محمودة لتعزيز ثقافة إنتاج السؤال المعرفي بوجه عام !

التعليقات