كتاب 11

05:12 مساءً EET

كيف تولد الجماعة؟

لا نسمع هذه الأيام عن ظهور مذاهب دينية جديدة. لكننا نسمع دائماً عن ظهور جماعات دينية جديدة. لو عدنا إلى التاريخ وتأملنا في الظروف التي ولدت في رحمها المذاهب المختلفة، لوجدناها شبيهة بالظروف التي تتخلق في رحمها أحزاب اليوم.

معظم المذاهب الدينية القائمة، مثل نظيرتها التي اندثرت في مسار الزمن، ولدت كنتيجة لتحولات اجتماعية أو صراعات سياسية. ثم جرى شحنها بمحتوى نظري يؤكد الحدود التي تفصلها عن التيار السائد. أحزاب اليوم تسير في الطريق نفسها. يكتشف شخص أو عدد من الأشخاص فكرة، تتحول إلى موضوع تناقض مع حاضنها الاجتماعي، ثم تتحول الدعوة إليها أو الدفاع عنها إلى «دائرة مصالح» لأصحابها، ثم يجري تنظير الحدود التي تميزها عن دوائر المصالح المنافسة في الإطار الاجتماعي ذاته، فتمسى «جماعة» مستقلة.

التحول من دائرة مصالح اجتماعية أو سياسية إلى مذهب أو طائفة، يتم تدريجياً، وقد يستغرق عشرات السنين، بحيث ينسى الناس ظرف البداية، فيتعاملون مع الجماعة أو الطائفة كمعطى ناجز أو واقع قائم، لا يبحث أحد عن أصوله وبداياته. من حيث الشكل الخارجي، لا تحمل الأحزاب الدينية المعاصرة سمات المذهب أو الطائفة. فكلها حريصة على تحديد موقعها ضمن أحد المذاهب. لكن التأمل في مضمونها ومحتواها الآيديولوجي، فضلاً عن مواقفها الثابتة، يوضح أنها لا تختلف كثيراً عن المذاهب المكتملة. ولذا فقد نجدها على خصام مع بقية أتباع المذهب نفسه، سواء انتموا إلى دوائر مصالح مستقلة أو كانوا ضمن التيار العام. إنها إذن أقرب إلى ما يمكن اعتباره شبه طائفة أو شبه مذهب، يحمل كل مقومات المذهب المستقل أو الطائفة المستقلة، لكن سماتها الخارجية لا تزال غير مكتملة.

قد يرجع هذا اللبس إلى إصرار الجماعات الجديدة على التمسك بالمصادر القيمية والمرجعية النظرية ذاتها للمذهب الأصل. وهذا من الأمور الشائعة. إذ نادراً ما تتخلى الجماعة عن المصادر المرجعية المشتركة، لأنها تحتاج إليها في تأكيد مشروعيتها. وهي تحتاجها كي تصون قدرتها على العمل في الحاضن الاجتماعي نفسه الذي تخارجت عنه. ولو أنكرت تلك المصادر لسهل على المنافسين إقصاؤها باعتبارها أجنبية أو خارجية. تتمسك الجماعة بتلك المصادر، بالمنظومات العقدية، والاجتهادات الفقهية الرئيسية، ثم تعيد تفسيرها على نحو يبقي على الارتباط بالأصل. لكنه في الوقت نفسه يؤكد الفارق بينها وبين المنافسين. ويبرر تخارجها النسبي عن المذهب الأصل. وهي تطرح هذه التفسيرات باعتبارها المفاد الصحيح أو المعنى الأقرب للمصادر المرجعية.

زبدة القول إن ظهور الجماعات الدينية اليوم، مثل ظهور المذاهب الدينية في الماضي، هو استجابة لدوافع ومحركات اجتماعية أو سياسية. أما الأفكار المتمايزة فهي إعادة تفسير للنص أو المصادر المرجعية على نحو يبرر التفارق.
ولهذا نجد أن بعض ما يطرحه أصحاب المذاهب من آراء متمايزة، لا مبرر له سوى تأكيد التمايز. إنها – بتعبير آخر – تأكيد على مركزية الجماعة، ودعوة الأتباع للنظر إلى الدين والعالم من خلال الجماعة/ المذهب، وليس النظر إلى الجماعة من خلال الدين أو الرؤية الدينية إلى العالم. هذا لا يعني بطبيعة الحال أن هذه الرؤية صحيحة أو باطلة، بل يعني فقط وفقط أن الاختلاف والتمايز، سنة جارية في كل دين وآيديولوجيا. يبدأ الانقسام لأسباب اجتماعية أو سياسية، ثم يشحن بمبررات دينية أو آيديولوجية.

التعليقات