مصر الكبرى

08:33 صباحًا EET

مع حازم ووائل.. مرة أخرى

تناولت مجلة «الإيكونومست» الأسبوع الماضي، مسألة انتقال السلطة في مصر، محذرة من أن البلد يمر بمخاض عسير، وربما ينحرف عن الطريق الصحيح للديمقراطية، حيث كتب محررو المجلة: أنه «تحت ركام الفوضى هناك صراع معقد بين الإسلاميين والعسكر، وعلى الغرب أن يدعم الإسلاميين».

هذا الموقف يتفق كثيراً مع ما طرحته المجلة نهاية عام 2011، من ضرورة إشراك الإسلاميين. الفرق اليوم هو أن المجلة تطالب بتسليم السلطة ـ أو «الثورة» إن شئت ـ إلى الإسلاميين، وليس مجرد إشراكهم فقط.
في السياق ذاته نشرت مجلة «التايم» على غلافها، موضوعاً عن الوضع المصري عنوانه «الثورة التي لم تكن»، حيث جادلت الكاتبتان جي نيوتن سمال وأبجيل هاوسلونر بأن المجلس العسكري، وفلول النظام السابق يحاولان وأد «الثورة» المصرية، وأن الأمل معلق بالإسلاميين، ممثلين في فوز الرئيس محمد مرسي للعبور بمصر بعيداً عن أهواء العسكر قائلتين: «إن أمل مرسي وحركته الوحيد للدفع بالتوازن هو بتشكيل حكومة ديمقراطية توافقية، أكثر مما كان ينوي الإخوان تحقيقه، وإلى الحد الذي يستطيعون معه تغيير خط الانقسام السياسي في مصر، ليكون بين الدولة المدنية والحكم العسكري، وليس بين الإسلاميين والعلمانيين الديمقراطيين».
ما نقلته هنا هي عينة مما ينشر في الصحافة الغربية من الحماس الشديد لدعم صعود الإسلاميين، بل ولتصويرهم وكأنهم من القوى الديمقراطية ودعاة حقوق الإنسان الذين اضطهدوا في المرحلة الماضية، وحان دورهم ليقودوا المرحلة الانتقالية نحو تحقيق الدولة المدنية.
إن كثير مما يُكتب يعتوره التبسيط والاختزال، فكيف يمكن اعتبار أن الإسلاميين بتياراتهم المتنوعة أفضل من الأنظمة السابقة، هكذا من دون أي اعتبار للأفكار والتاريخ؟! ومتى كان الإسلاميون دعاة تعددية أو مناصرين للحريات المدنية؟! وكيف يمكن أن يقال إن الصراع بين الإسلاميين والعلمانية، انتهى هكذا فجأة بسقوط النظام؟! أو أن أزمة المجتمعات الإسلامية مع الحداثة حُلت بانتخاب الإسلاميين؟!
إن من حق الإسلاميين المشاركة في الانتخابات وممارسة العمل السياسي، ولكن ليس من الصواب أن ينسب إليهم رأي أو موقف مخالف لقناعاتهم وخطابهم الأيديولوجي، وحتى إذا غيروا بعض مواقفهم من أجل التكتيك السياسي، أو مراعاة للظروف والتوازنات، فهذا لا يعني أن تحولاً فكرياً قد حدث لطروحاتهم، أو أنهم مستعدون للتنازل عنها.
لا شك أن جدل «الربيع العربي» قد تغير خلال عام واحد، فبعد أن كان يقال لنا إن هذه الثورات خرجت ضد الديكتاتورية والظلم، وأن الشباب الذي يقودها غير مؤدلج، ويسعى إلى رفض أفكار وممارسات الماضي، ها نحن نعود للأسئلة الأولى ذاتها، والأفكار ذاتها واللاعبين السابقين أنفسهم.
ماذا يعني أن يفوز بالانتخابات الإسلاميون في كل بلد جرى فيها الاقتراع، وأن تستحوذ التيارات الإخوانية والسلفية على المشهد السياسي برمته لتشكل الدستاتير وصياغة أنظمة الحكم المقبلة. في العام الماضي كان الجدل يدور حول الاختيار ما بين الديكتاتورية والديمقراطية، ما بين الاستبداد والحرية.
أما اليوم فقد أصبح الخيار ما بين الإسلاميين أو العسكر وفلول النظام السابق.
حقاً إنها نتيجة مخيبة لآمال البعض، ومبهجة لآخرين. في أبريل (نيسان) من العام الماضي كتبت مقالاً بعنوان «إلى وائل وحازم.. كل الثورات» فيها حق وباطل»، حاولت من خلاله مناقشة الكاتب القدير حازم صاغية والناشط المصري وائل غنيم، حيث كان الاحتفاء بالثورات – أو الانتفاضات- الشعبية يطغى على الأسئلة الضرورية في حينها: هل يمكن بناء دولة مدنية حديثة في ليبيا؟ هل يتوفر تكنوقراط مدربون وفنيون اقتصاديون للنهوض بالوضع المعيشي في تونس؟ هل تملك مصر تياراً وطنياً مستقلا لصياغة دستور مدني/علماني بعيداً عن العسكر والإسلاميين؟ وكيف يمكن نقل السلطة سلمياً في اليمن بشكل يحفظ البلد من التفكك؟
للأسف، تحولت الكتابات حول «الربيع العربي» إلى خطاب تبجيلي لـ«الثورة» واحتفاء بشهدائها المفترضين، وحالة تشف من الأنظمة السابقة، بحيث تم الخلط ما بين رجال النظام وتكنوقراط البلد، وما بين مشكلات البلد البنيوية وفساد نخبتها الحاكمة، وما بين الطبيعة الشمولية للنظام والإصلاحات اليتيمة التي تحققت في هذا البلد أو ذاك.
بيد أن المقالات والكتابات لم تلبث بعد أكثر من عام، أن تحولت إلى نقد بعض المظاهر السلبية للثورة، لا سيما الفوضى والعنف اللذين أعقبا انهيار تلك الأنظمة، ولكن لا أحد يقّر بأن الحماس وإغواء اللحظة قد استبدا بالناشطين والمعلقين والمراقبين بحيث أهملت المخاوف الرئيسة، ورفضت التحديات الموضوعية في الاقتصاد وبناء الدولة، وحتى تم تهميش أصوات النقد بوصفها تعيش في الماضي، وأنها لم تفطن لتغير التاريخ، ومر جدل «الربيع العربي» بمرحلة تم فيها الإغراق في تصوير الحلم الطوباوي الذي يعقب ليل الديكتاتور الطويل.
في بداية الثورات، كتب حازم صاغية ما مؤداه أن الخيار هو ما: «بين كارثة تتمّ بالتقسيط منذ عشرات السنين.. وبين كارثة تحصل بالجملة، لكنّها قد تفتح باباً لتأسيس المستقبل»، ولكن خلال الأسابيع الماضية تغير موقف صاغية من التفاؤل الحذر إلى الإحباط أو ما سماه «انعدام المعنى والوجهة»، حيث كتب معلقاً على نتائج الانتخابات المصرية التي فاز بها الإخوان: «في المعنى هذا تغدو العمليّة الانتخابيّة مرآة لغموض الإرادات وتضاربها أكثر منها مرآة للإرادة الشعبيّة، ولوحةً ترسم الاستحالات السياسيّة أكثر منها وجهةً تشير إلى احتمالاتها» (الغموض الهدّام، جريدة الحياة 23 يونيو).
في المقابل لا يبدو وائل غنيم قلقاً أو منزعجاً مما جرى في مصر، فالمدير التنفيذي لـ«غوغل» الذي نُسب إليه تفجير «الثورة» في 25 يناير حتى احتفت به المنتديات الغربية وقدمت له الجوائز الدولية، لم ينتخب إلا مرشحين إسلاميين من الإخوان.
ليس عيباً أن تنتخب إسلامياً، فهذا حق فردي خاص، ولكن لا أظن أنه يمكنك الإشارة إلى نفسك بأنك داعية لدولة مدنية وحقوق إنسان، لأن الجماعات الإسلامية بتياراتها المختلفة بعضها يكفر بتلك المبادئ، والبعض الآخر لديهم تصوراتهم الخاصة عما يعتقدونه مباحا شرعاً من هذه القيم والمبادئ الغربية. إن صورة الشاب وائل غنيم الذي تحدى نظام مبارك عشية الثورة تحجبها الآن صورته وهو يهتف لمرشح الإخوان بحماسة شديدة، أي أن الشاب الذي تم تصويره في وسائل الإعلام العربية والغربية كنموذج ديمقراطي/مدني يسعى إلى مقاومة الاستبداد سلمياً من أجل الحريات العامة، لم يكن في الحقيقة إلا شاب إخواني (عصري) معارض لنظام العسكر.
هذا لا يقلل من أهمية الدور الشجاع الذي قام به، ولكن من الضروري أن تسمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية.
في فيلم «العصابة الأميركية»، يقول فرانك لوكس (دينزل واشنطن) للصحافي الذي يروي حكايته: «عندما تمتلك الشيء، فبإمكانك أن تسميه ما تريد».
لقد حدثت انتفاضات شعبية في بعض الدول العربية لأسباب عديدة، وبوسع من حصدوا المغانم أن يسموها ما شاؤوا، ولكن ليس على الآخرين قبول ذلك.

التعليقات