كتاب 11

03:45 مساءً EET

الدبلوماسية التي لا تحرق الجسور

التحديات التي يرميها الشرق الأوسط اليوم أمام دبلوماسية الدول الكبرى كبيرة للغاية. حتى من كان يبدو من أصحاب التنبؤات الصائبة في الماضي القريب يصمت الآن خوفاً من الوقوع في خيبة جديدة. فما الذي يمكن أن يفعله الدبلوماسيون المطالبون برسم السياسة الخارجية لدولهم؟ رفض مبدأ الاستراتيجية واتباع مبدأ ردة الفعل السريعة؟ التقليل من مستوى المشاركة في القضايا الشرق أوسطية؟ التخفي خلف الحلفاء؟ إن جميع من يتعامل مع هذه المنطقة يواجه تحديات جمة من بينها: عدم استمرارية وترنح وسرعة تبخر التحالفات والاتحادات المتشكلة فيها، ظهور بؤر أزمات ونزاعات جديدة، التصدعات في داخل الدول القومية، التبدلات في توجهات السياسة الخارجية. مواجهة جميع هذه التحديات بالنسبة لأي دولة لها مصالحها في هذه المنطقة ليست بالأمر السهل، وروسيا ليست حالة استثنائية في هذا الشأن.
ليس من الصعب ملاحظة أن ما يساعد الدبلوماسية الروسية في حل المسائل المذكورة أعلاه هو عدد من الصفات النوعية التي أصبحت تتسم بها. واحدة منها تتمثل بقدرة فرز التوجهات الرائدة في تطور الوضع والاعتماد على اللاعبين ذوي الأفق البعيد مع مراعاة عدم حرق الجسور في العلاقات مع الآخرين والجاهزية للتعامل مع المنعطفات الحادة في الوضع أكان في دول محددة أم في مجموعة دول، وكذلك الجاهزية للقيام بدور الوسيط. فلننظر إلى التجربة السابقة لموسكو في عهد الاتحاد السوفياتي وعلاقاتها مع المملكة العربية السعودية. استذكار هذا الموضوع حيوي، بالأخص في الوقت الحالي خلال زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو التي منذ الإعلان عنها وصفت بالتاريخية. على الأغلب أنه حين ستنشر هذه المقالة فستكون قد ظهرت النتائج الأولية للمحادثات في موسكو والتي علقت عليها آمال كثيرة.
أود التذكير بأن موسكو اتخذت قراراً في بداية العشرينات من القرن الماضي ببناء علاقات دبلوماسية أيام الهاشميين، لكن قادة المفوضية الشعبية للشؤون الخارجية (هكذا كانت تسمى وزارة الخارجية حينها) والقنصل العام كريم حكيموف الذي كان قد وصل إلى جدة، تنبأوا بقدرات الملك عبد العزيز. قرار بناء العلاقات معه وتطويرها اتخذ قبل وقت طويل من انتصاراته الحاسمة. لقد أثار سعي الملك عبد العزيز لتوحيد «القبائل العربية المشتتة» إعجاباً خاصاً لدى الكرملين. وزير خارجية الاتحاد السوفياتي آنذاك غريغوري تشتشيرين كتب في برقية لحكيموف: «إن أي سعي للشعوب الشرقية للاستقلال بإمكانه أن يعول على تعاطفنا. نرغب من خلال بناء العلاقات مع الحجاز بناء التواصل مع شعوب شبه الجزيرة العربية ونود الحفاظ على هذا التواصل ومتابعته».
في أبريل (نيسان) من عام 1925 وخلال تأدية حكيموف لمناسك العمرة كان قد التقى مع الملك عبد العزيز وتقدم بمحاولة للتوسط في تحسين العلاقات مع الملك علي بن الحسين. وليس من باب الصدفة أن تكون روسيا (حينها الاتحاد السوفياتي) هي أول من اعترف بالمملكة العربية السعودية في عام 1926، ومن ثم كانت قد بذلت موسكو جهوداً كبيرة لمصالحة المملكة مع بلاد فارس رغبة منها في تقديم المساعدة لابن سعود. فكر حينها الدبلوماسيون الروس في إنشاء مثلث من دول الشرق الأوسط ذات السياسة الخارجية المستقلة، المملكة العربية السعودية وبلاد فارس وتركيا، ألا يذكرنا هذا بالصيغة الحالية لمحادثات آستانة حيث استطاعت موسكو أن تتوحد مع تركيا وإيران في مثلث الدول الضامنة للعملية التفاوضية رغم كل الخلافات الموجودة بينها؟ نائب المفوض الشعبي للشؤون الخارجية حينها ليف كاراخان كتب لحكيموف عن إمكانية تنظيم محادثات سعودية – فارسية في موسكو أو على أراضي دولة ثالثة ما يلي: «… بالنسبة لنا المحادثات التمهيدية مقبولة تماماً في حال استطعنا تنظيمها بوساطتنا. نحن موافقون… وأنتم أيضاً تميلون لتنظيم المحادثات في مكان محدد جانباً. ونحن نشاطركم الرأي تماماً في إشارتكم إلى موسكو لإقامة محادثات تمهيدية. بهذا الشكل فإن مسألة استمرار نشاطاتنا لمصالحة بلاد فارس مع ابن سعود تصبح مرتبطة بشكل مباشر بمدى إمكانية ضمان وصول الملك فيصل إلى موسكو». زيارة الملك فيصل بن عبد العزيز إلى روسيا (آنذاك الأمير) تمت لكن في فترة لاحقة عام 1932.
التقاليد المهنية الدبلوماسية المعهودة حصلت على امتداد لها اليوم بعيداً عن التغيرات في بناء المجتمع السياسي في الدولة الروسية. بمناقشتها أنا لا أحاول وضع المسألة في عملية تقييم للسياسة الروسية في الشرق الأوسط بشكل عام، وهنا أتحدث عن رأيي الخاص كمحلل. موسكو بمكافحتها للإرهاب في سوريا بالاعتماد على دمشق تعمل في نفس الوقت على التواصل مع المجموعات المعارضة المختلفة وتقوم بأعمال وساطة كبيرة في العلاقات بين الأطراف المتنازعة. كما عادتها فإن روسيا بالاعتماد على الدول القومية المعترف بها دولياً، تبني كذلك علاقاتها مع اللاعبين الآخرين (طبعاً وفقاً للمبادئ الدولية). فهي تعطي الأولوية لبغداد ومبدأ الحفاظ على وحدة الدولة العراقية في علاقتها مع العراق، وهذا ما كان قد أعلن عنه الرئيس الروسي. فكما هو معروف خلال كلمتهم أمام الصحافيين حول نتائج لقائهما في 28 سبتمبر (أيلول) من هذا العام والذي استمر لأكثر من أربع ساعات لم يساند الرئيسان الروسي والتركي معاً وحدة الأراضي العراقية والسورية فحسب (ذكر سوريا هنا كان مهماً للغاية مع الأخذ بعين الاعتبار الادعاءات الموجودة حول تقسيم هذا البلد)، بل وعبرا كذلك عن جاهزيتهما للاستمرار في العمل المشترك بشأن مناطق خفض التصعيد في سوريا (أهم إنجازات عملية آستانة). لكن موسكو مع التأكيد على التمسك بوحدة العراق فإنها بالوقت ذاته تطور علاقاتها مع كردستان العراق كإقليم له صلاحيات واسعة في إطار الحكم الذاتي وفقاً لدستور البلاد. وبنفس الوقت أيضاً تعبر عن تعاطفها مع التطلعات القومية للأكراد. وتتبع موسكو نهجاً مماثلاً نحو تنوع غير متناظر تجاه اليمن وليبيا، حيث بدأ يزداد دورها كوسيط، آخذة في عين الاعتبار بالدرجة الأولى المصالح الوطنية لشعوب هذه الدول.
هنا أنا لا أنوي ولا بأي شكل من الأشكال أن أحول هذه الملاحظات إلى مديح للدبلوماسية الروسية في الشرق الأوسط. فهي تنقصها الموارد الاقتصادية التي يمتلكها الغرب. على الأغلب تقع فيها الأخطاء كما هو الحال في أي دولة، وبعض اتجاهاتها بحاجة لتصحيح النهج فيها. لكن الشيء الأكيد الذي لا يمكن إنكاره في السياسة الروسية هو منطقيتها وإمكانية التنبؤ بها. استذكار التاريخ في بعض الأحيان مفيد لكي نستخلص الدروس الضرورية منه.

التعليقات