كتاب 11

01:42 مساءً EET

وهم الديمقراطية

لا مفر من ملاحظة أن التركيبة الثقافية الاجتماعية لا تقترب مما يمكن تعريفه بـ«الديمقراطية»، رغم كثرة ترديد صحافة بلدان منطقة الشرق الأوسط للكلمة التي تُختزل إلى مجرد الانتخابات.
ينقلنا المونتاج السينمائي الموازي إلى بريطانيا: مثقفو الطبقات الوسطى الليبرالية بنوا مناخاً عاماً على ادعاءات تتشابه مع التبريرات التي قدمتها الطبقة الوسطى المصرية لخلق مناخ يجمد الديمقراطية.
قد تكون الدوافع نيات حسنة كحب الوطن، أو «تقدمية» كحماية بنيان الدولة من الفاشية الدينية والفكر الإرهابي.
ومنذ أن سجل التاريخ كلمة «الديمقراطية» بمعنى: سلطة الشعب (ديموس: الشعب بالإغريقية، وقراطيا: السلطة)، والديمقراطية عملية مستمرة التطور بلا توقف، حتى في أعرق الديمقراطيات، بمؤسسات وممارسات تراكمت على مرور الأجيال لتخلق المناخ والحياة الديمقراطية.
وهناك عصور وظروف تتراجع فيها الديمقراطية، وأخرى تتقدم.
فمقولة استمرار التقدم في الحياة السياسة هي خرافة لا صحة لها، حتى في ظل أفضل مناخ ديمقراطي، كبريطانيا مثلاً باعتبارها أقدم الديمقراطيات وأكثرها نضجاً. ففي دائرة مستمرة من التقدم ثم التراجع، تصبح الديمقراطية والحرية مجرد إنجازات مرحلية، دائماً تحت التهديد والشك من الأقوياء والأثرياء وأصحاب النفوذ عندما تأتي الممارسة الديمقراطية بنتائج تناقض مصالحهم أو خارج تصورهم.
فهم يعتبرون أنفسهم أصحاب الأحقية لأنهم «أكثر ذكاء ومهارة» من الآخرين، فهم الصفوة والنخبة.
أوضح الأمثلة نتائج الاستفتاء البريطاني على عضوية الاتحاد الأوروبي، ونتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية.
فالنخبة، صاحبة الأحقية الأكثر ذكاء، ترفض نتائج الممارسة الديمقراطية التي كانت تروجها وتبيعها لبقية العالم قبل إعلان النتائج.
بعد النتيجتين، تكرس النخبة كل قواها في صناعة الرأي العام لتشن الهجوم المستمر طوال أربع وعشرين ساعة على الرئيس المنتخب ديمقراطياً في حالة أميركا، ولإلغاء الـ«بريكست» عكساً لإرادة الشعب في حالة بريطانيا.
الفيلسوف الإغريقي أفلاطون (427 – 347 ق.م.) قدم في «جمهورية» أفلاطون ما اعتبره كثيرون النموذج الأمثل للصالح العام، لكن الصورة بمقاييس ما تعلمناه لأكثر من ألفي عام ليست الديمقراطية الليبرالية المفضلة للجميع. جمهورية أفلاطون حكم الصفوة أو النخبة لصالح المجتمع ككل، ناصحاً الشعب بأن يمنح ثقته العمياء للملوك أو الحكام الفلاسفة العقلاء لأنهم انفردوا بامتلاك الحكمة والمعرفة.
بعد 24 قرناً، لم تعد المعرفة والحكمة حكراً على الحكام الفلاسفة؛ أحد أهم فلاسفة القرن العشرين، السير كارل بوبير (1902 – 1994)، يستخدم أسلوب فلسفة الرفض، بإخضاع أي مقولة أو نظرية لتجربة الاختبار على أرض الواقع، لفحص مقولات الديمقراطية في «جمهورية أفلاطون»، المبنية على ما يعرف اليوم بـ«الهندسة الاجتماعية» (social – engineering)، بمنظور معاصر، ليستخلص أن الجمهورية الأفلاطونية النموذجية أصبحت الوقود الفلسفي والذهني لديكتاتوريات القرن العشرين.
فبعد الماغنا كارتا والعقد الاجتماعي، لم تعد مقولة «الحق الإلهي في الحكم»، التي أبقت الشعوب خاضعة في القرون الوسطى، صالحة لما بعد عصر التنوير في أوروبا.
قبل تحديث محمد على باشا، واكتمال عصر التنوير في مصر في عهد الخديوي إسماعيل، كانت المؤسسة الدينية مصدر شرعية تصعب مساءلته. أما في بريطانيا، التي سبقت المنطقة بقرون، فدفعت النخبة الحاكمة بأسباب أخرى (بتبرير عقلاني) للتحكم في العامة.
في القرن الثامن عشر، أقنعت النخبة من الطبقات العليا وملاك الأراضي، عن طريق المثقفين صناع الرأي العام، الشعب (وكان معظمه أمي) بمنحها ثقته الكاملة، لكن الشعب سرعان ما تعلم القراءة، فانتخبوا المحافظين، من الطبقة نفسها.
وفي القرن التاسع عشر، جادل مثقفو النخبة الحاكمة بأن منح الفقراء والطبقات الدنيا حق التصويت سيؤدي إلى وصول الشيوعيين للحكم، ولم يتصوروا مدى خطأ التبرير بعد مائة عام، عندما انتخبت أكثر الطبقات فقراً زعيمة المحافظين مارجريت ثاتشر ثلاث مرات لأنهم عاشوا ديمقراطية صغار الملاك (مكنتهم ثاتشر من تملك مساكنهم بتقسيط بسيط، ليتمتعوا بما كان حكراً على الطبقات الوسطى).
بعد زلزالي تصويت البريطانيين على الـ«بريكست»، والأميركيين بانتخاب ترمب، تروج الصحافة (خاصة الشبكات التلفزيونية الليبرالية) مقولة مثقفي الطبقة الوسطى الليبرالية اليسارية، من أن عصر العولمة والتكنولوجيا والبورصات أكثر تعقيداً من أن يفهمه رجل الشارع بسؤال بسيط في صناديق الاقتراع.
فالعامة، في رأيهم، جهلاء ينساقون وراء العواطف، وتجب العودة لفكرة جمهورية أفلاطون، بحرمان البسطاء من صنع القرار (أو تجاهل نتائج التصويت)، ليكون القرار في يد الحكماء، وهم في هذا العصر من التكنوقراط.
والمثال الاتحاد الأوروبي بمفوضية غير منتخبة، أو مصر وبلدان الشرق الأوسط. فرئيس البلد منتخب، لكن الحكومة كلها من التكنوقراط المعينين رأسياً من أعلى، وليسوا نواباً برلمانين منتخبين. وبينما في بريطانيا لا يوجد وزير غير برلماني، فإن مثقفي الطبقة الوسطي البريطانية المتحكمة في وسائل الصحافة ترفض أن تنفذ الحكومة إرادة الشعب، وتريد تسليم المصير لتكنوقراط غير منتخبين في بروكسيل.
هذا التبرير (عدم قدرة رجل الشارع على تفهم العالم المعقد، وترك القرار للنخبة) عرفه الفيلسوف الأثيني سقراط (407 – 399 ق.م) بالإغريقية بـ«gennaion pseudos»، وترجمت بالإنجليزية إلى «الكذبة» أو «الخدعة النبيلة»، وأحياناً «الكذبة الأفلاطونية النبيلة»، في تفسير سقراط لأسطورة أو خدعة المعادن في نقده لجمهورية أستاذه أفلاطون؛ أي: الكذبة التي تخلقها الطبقة المسيطرة على الرأي العام، وعلى العقل الجمعي للأمة، من أجل مصلحة وطنية نبيلة عليا، وتظل الصحافة المسيطرة (التلفزيون في الزمن الحديث) تردد الكذبة النبيلة حتى تصبح الواقع المقبول، وأحياناً المبالغة في تهويل الخطر الذي قد تتعرض له الأمة إذا أدت الانتخابات الديمقراطية إلى تغيير النظام القائم أو «الأمر الواقع».
الكذبة النبيلة التي تسيطر على العقل الجماعي، سواء في الديمقراطيات العريقة كبريطانيا أو بلدان اغتيلت فيها الديمقراطية البرلمانية التعددية في طور المراهقة (لم تستمر في مصر إلا ما بين 1922 – 1954)، هي الخطر الأكبر الذي يهدد الديمقراطية، ويدفع المجتمع نحو الشمولية، سواء الفاشية أو الشيوعية أو الاستقطاب بينهما. تيارات اليمين المتطرف أدت لحوادث فردية لمخبولين (مثل دارين أوزبورن الذي حكم عليه يوم الجمعة بالمؤبد لدهسه المصلين في مسجد فينزبري بارك)، بينما تيارات اليسار المتطرف تمحو الإرث الحضاري، وتهدد بتدمير الهياكل الاقتصادية للإنتاج. وفي بلدان «ربيع» 2011، يستوي اليمن واليسار، فلا استقطاب بل استمرار في ركود الكذبة النبيلة.

التعليقات