كتاب 11

01:46 مساءً EET

الحرب الباردة الجديدة ليست حتمية

كانت هناك علاقة ودية تربطني بقائد القوات المسلحة الروسية الجنرال نيكولاي ماكاروف حال خدمتي كقائد أعلى لقوات الحلفاء بحلف شمال الأطلسي في الفترة بين عامي 2009 و2013، ولقد كان رجلاً قصير القامة، ممتلئ الجسد، وله أسلوبه الشخصي المميز، وبالنسبة لبنيتي الجسدية العسكرية، كان يمكنني على أقل تقدير أن أبلغ رئيسي المباشر وقتذاك، وزير الدفاع بوب غيتس، بأنني أستطيع أن ألحظ بعض الأمور «عيناً بعين» مع نظيري الروسي. وكانت لقاءاتنا تتم في موسكو أو في مقر حلف الناتو في بروكسل عدة مرات. كما استقبلته أيضاً في مقر إقامتي الشخصية في مونس ببلجيكا، حيث تبادلنا الأحاديث ذات المغزى.
وتناقشنا حول مجموعة منوعة من القضايا، بما في ذلك الغزو الروسي لجورجيا إلى الاستراتيجية الملائمة في أفغانستان، ولكنها كانت علاقة تتسم بالانفتاح، والعقلانية، والبراغماتية. وربما كان الخلاف الوحيد والكبير الذي ثار فيما بيننا يتعلق برغبة الولايات المتحدة في نشر نظام الدفاع الصاروخي الأميركي في أوروبا – الذي لا يهدف إلى معارضة الأنظمة الاستراتيجية الروسية هناك بقدر ما يتعلق بالدفاع ضد الصواريخ الباليستية الإيرانية.
كما عملنا سوياً على تطوير عدد من برامج التعاون المشتركة، من مكافحة القرصنة على مشارف القرن الأفريقي إلى تبادل المعلومات الخاصة بعمليات تهريب المخدرات من أفغانستان. وبوجه عام، فإن هذا النوع من العلاقات العسكرية الرفيعة مفيد للغاية في نزع فتيل التوتر وتجنب الاشتباكات غير المقصودة. وهي من الأمور المهمة على المستويات التكتيكية، والعملياتية، والاستراتيجية.
ومع اعتبار الغزو الروسي اللاحق لأوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم، والتدخلات السافرة في الانتخابات الرئاسية الأميركية، والدعم الروسي للديكتاتور ومجرم الحرب السوري بشار الأسد، فإن ذلك النوع من العلاقات رفيعة المستوى قد لازمها قدرها المعتبر من الكمون لبعض الوقت. كما أثلج صدري كثيراً علمي بالتقارير الإخبارية الأخيرة التي تفيد بأن هناك مناقشات تجري على قدم وساق بين رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال جو دانفورد، والقائد الأعلى الحالي لقوات الحلفاء في أوروبا الجنرال كيرتس سكاباروتي مع القائد الحالي للقوات المسلحة الروسية الجنرال فاليري غيراسيموف.
وتُجرى المحادثات الهاتفية بين هؤلاء القادة الكبار بقدر من الانتظام، والأهم من ذلك كان ترتيب ميعاد اجتماع مباشر، بشكل مبدئي، بين الجنرال سكاباروتي والجنرال غيراسيموف، في أوروبا. واجتماع كهذا هو من العناصر المهمة إن أردنا تجنب التراجع إلى الوراء في خضم حقبة الحرب الباردة الشاملة مع روسيا.
فما الذي ينبغي أن يكون على جدول الأعمال حال اجتماع القادة العسكريين الكبار المخضرمين؟
وعلى الصعيد التكتيكي، يحتاج الجنرالان إلى إنشاء نظام فعال لتفادي المواجهات غير المقصودة بين حلف الناتو وروسيا. وفي غير مرة على مدى العام الماضي، كانت الطائرات والسفن الحربية لحلف الناتو وروسيا على مسارات التصادم المحتملة في البلطيق، والبحرين الأسود والأبيض المتوسط. وفي حين أن تفاصيل تلك المواجهات المحتملة تظل قيد السرية والكتمان، كانت هناك مواجهات قريبة وخطيرة في منطقة القطب الشمالي.
وينبغي على القائدين الكبيرين تكليف الأركان لدى كل منهما بالتشاور المستمر بشأن سبل الحد من احتمالات الحوادث عالية المخاطر. الأمر الذي يمكن أن يشمل تفعيل الإشارات التقنية لاستخدامها في العمليات، وتحديد مسافات «المواجهة» في الجو والبحر، إلى جانب الخطوط التكتيكية الساخنة لإحاطة كل جانب علماً بالدوريات العسكرية الجارية.
من الناحية العملياتية، ينبغي للمحادثات أن تهتم بالأماكن التي تنتشر فيها قوات الجانبين على نطاق واسع. ولا يشعر الروس بالسعادة البالغة مع الوجود العسكري المتزايد على حدود الاتحاد الروسي. وحلف شمال الأطلسي، من جانب آخر، يراقب عن كثب وقلق، وله مبرراته في ذلك، القوات الروسية المنتشرة في جنوب شرقي أوكرانيا. وفي حين أنه من غير المرجح لأي من الجانبين تغيير مواضع الانتشار العسكرية في المستقبل المنظور، فإن من نقاط البداية الجيدة أن يُطلع كل جانب الآخر على الخطط ومواضع الانتشار الحالية بوجه عام، وشامل، وغير سري. ولنسمح للجانب الروسي بشرح وجهة نظره بشأن الوجود العسكري في أوكرانيا ولندع قائد قوات الناتو يدافع عن تطوير وانتشار قوات الرد السريع التابعة لحلف الناتو. وقد يكون هناك قدر ما من التنازلات المحدودة التي يمكن اقتراحها على تسلسل القيادة المعين بهدف الحد من مجالات التوتر الواضحة بين الجانبين.
ومن حيث المناورات العملياتية، فإن المزيد من الشفافية والوضوح سيكون جيداً للغاية. وهناك آليات معينة ومعمول بها في هذا الصدد، مثل اتفاقية السماء المفتوحة، التي تسمح بقدر من التحليق والاستطلاع خلال المناورات العسكرية التي تجريها دول أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، فإن برامج التدريب الضخمة التي تجريها كل من روسيا والولايات المتحدة من شأنها السماح بوجود المراقبين على الأرض في أجزاء معينة من التدريبات، باعتبارها من تدابير بناء الثقة بين الجانبين. ويمكن للتدريبات البحرية في بحر البلطيق والبحر الأسود أن تتضمن عنصراً يعمل الجانبان سوياً من خلاله في تنفيذ العمليات الإنسانية، أو عمليات مكافحة تهريب المخدرات.
وأخيراً، هناك الكثير مما يمكن مناقشته على الصعيد الاستراتيجي. وبرغم أن هذين القائدين الكبيرين ليسا مسؤولين عن صياغة الاستراتيجيات القومية في بلادهما، إلا أنه بإمكانهما إيضاح بعض من تلك الأمور لبعضهما البعض. وينبغي على الجنرال سكاباروتي التأهب لمناقشة استراتيجية الأمن القومي الجديدة الصادرة عن إدارة الرئيس دونالد ترمب (التي صيغت إلى حد كبير بواسطة مستشار الأمن القومي السابق إتش آر ماكماستر). وينبغي على الجنرال غيراسيموف أن يحسن القدرة على مساعدة الغرب في تفهم الأسباب الكامنة وراء عزم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تدشين سلسلة جديدة وخطيرة من الأسلحة الروسية الحديثة – بما في ذلك الطوربيد النووي.
وبالإضافة إلى العمل على جملة من التحديات والتوترات، ينبغي على الجنرالين التفكير سوياً بشأن مجالات التعاون الممكنة، ومن بينها مكافحة الإرهاب الدولي، وعمليات البحث والإنقاذ في القطب الشمالي، وعمليات مكافحة القرصنة البحرية، والعودة لحالة التعاون السابقة في أفغانستان (عندما اتسقت مصالح البلدين سابقاً إزاء الحد من تهريب المخدرات وإرساء الاستقرار في المنطقة).
بطبيعة الحال، ليس من شأن كل ما طرحناه أن يسفر عن نزع فتيل التوتر بين الناتو وروسيا على الفور. بل ربما سوف تكون هناك الكثير من التحديات التي تواجه تلك العلاقة، بما في ذلك آخر تلك التوترات وأحدثها – ذلك الهجوم التي وقع على التراب البريطاني باستخدام غاز الأعصاب. ولكن عبر انتهاج مسار حتمية المواجهة عند اللزوم مع حتمية التعاون عند الإمكان، يمكن لهذين القائدين الخروج بمقترحات ذكية تتعلق بمجالات التعاون الواقعية في خضم بحر المواجهات الحالي.

التعليقات