كتاب 11

03:00 مساءً EET

طريق العرب إلى اليابان… سالكة

التوقيت العربي بعد التوقيت الياباني بسبع ساعات. لكن الفرق بين التقدم العلمي والاقتصادي والخدماتي والسلوكي بين العرب واليابان يقاس بالعقود وليس بالساعات. وكنت أحدث صديقاً عن هذا الأمر فقال متطرفاً: الفرق بالقرون وليس بالعقود.
يقال إن أول عربي زار اليابان تاجر تمور من أهل البصرة يدعى سبابة بن أبي جعفر بن عبد الرحمن، وحدث ذلك حين استأجر في بدايات الاحتلال البريطاني للعراق سفينة من شركة الهند الشرقية البريطانية التي غيروا اسمها إلى شركة «بيت لنج» للتجارة مع الهند. وكان التاجر يحمل أوراقاً هندية حين كانت الهند تحت الاحتلال البريطاني أيضاً.
على أي حال: يتساءل كثير من العرب عن الدور الياباني الخجول في القضايا العربية. والذين يعرفون اليابان جيداً يقولون إن أهلها «يتسكعون» على رصيف القضايا العربية الحساسة، ويهربون منها إلى قضايا التنمية والثقافة والفنون والنقل والإسكان والبيئة والتكنولوجيا.
في شتاء عام 1986 كنت أترأس وفداً «إنسانياً» عراقياً إلى طوكيو ضم ثلاثة أسرى عراقيين معاقين عادوا لتوهم من إيران، وفي الوفد ممثلان اثنان عن وزارتي الدفاع والخارجية، وأنا أمثل وزارة الإعلام. كانت مهمتنا هي تدويل الدعوة لوقف إطلاق النار بين العراق وإيران وإطلاق سراح الأسرى من الجانبين والدخول في مفاوضات لحل المشاكل العالقة. ولأن مهمتنا كانت «إنسانية» وليست «رسمية» فقد تم تنظيم لقاءات لنا مع بعض منظمات المجتمع المدني والصحافة، ومن بينها اجتماع على فطور صباحي في مقر حزب معارض. ذهبنا في الموعد المحدد واستقبلونا بانحناءات كثيرة وابتسامات ودودة، ثم قادونا إلى مائدة إفطار عمل شعارها: «كل وناقش». وبصرف النظر عن التنظيم الياباني الدقيق لجلوس أعضاء الوفدين، فإنهم نسوا شيئا واحداً هو «المترجم»، إذ تبين أن أعضاء الوفد الياباني المضيف لا يتحدثون اللغة الإنجليزية ولا العربية، ولا أعرف كيف افترضوا أننا نتحدث اللغة اليابانية! صحيح أنني كنت أعرف بعض الكلمات من اللغة اليابانية مثل الجودو (فن رياضي قتالي) والكيمونو (الملابس اليابانية التقليدية) والهاريكاري (الانتحار بالسيف) والساموراي (المقاتلون الأشداء) والسوشي (أكلة يابانية شهيرة) وتويوتا وداتسون ويوكوهاما، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لكي يوقعوا معنا إعلاناً بالتضامن لإطلاق سراح الأسرى. وبما أن لدى اليابانيين حلاً لكل مشكلة فقد قرروا أن تكون كلمتهم باللغة اليابانية وكلمتنا باللغة العربية. ولأن اليابانيين يؤمنون بحزب البعث الياباني الاشتراكي كما يبدو فقد رفعوا أمامناً شعار: نفذ ثم ناقش. وهكذا وقف أقصر أعضاء الوفد الياباني وألقى كلمة عرفنا من ابتساماته المتصلة أنها ترحيبية بمقدمنا الميمون. وبدأنا نصفق كلما سمعنا كلمة «إيراك» أي العراق. ثم حانت ساعة القيامة، أي قيامي من الكرسي لإلقاء كلمة باللغة العربية، فبدأتها بابتسامة عريضة وانحناءة مفتعلة صفق لها اليابانيون الستة. ثم نزل الوحي على رأسي فألقيت افتتاحية قصيدة «صوتُ صفير البلبل… هَيّجَ قلبَ الثملِ» للشاعر البصري العراقي أبو سعيد الأصمعي، وهو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي (741–831م) ثم قلت: جئناكم من بلد «علي بابا»، فصفق الوفدان العراقي والياباني بعد أن تبين أن اليابانيين سمعوا بعلي بابا ولديهم أفلام ومسرحيات عنه. أما بقية كلمتي فلا علاقة لها بالقضية المركزية والأسرى والساموراي والهاريكاري والجودو وتويوتا.
حين عدنا إلى السفارة العراقية تحدثت إلى السفير الدكتور رشيد الرفاعي عن ورطة المترجم، فقال إن معظم الوفود العربية التي تجتمع مع منظمات المجتمع المدني الياباني تعاني من المشكلة نفسها: اليابانيون يتحدثون بلغتهم والعرب يتحدثون بلغتهم، ويصفق الجميع لحوار الطرشان (تغير الحال اليوم فصاروا يعرفون العربية ونعرف السوشي وسيارة لكسز). وأوضح السفير أن اليابانيين لا يفضلون إقحام أنفسهم في المشاكل الدولية، وخاصة في الشرق الأوسط لأن لهم مصالح نفطية واقتصادية يحسبون لها حساباً. حتى مشاركتهم في التحالف الدولي بعد ذلك في حرب الكويت عام 1991 ثم في احتلال العراق عام 2003 بشأن العراق كانت رمزية. وطوكيو تفضل بناء أوبرا في القاهرة على بيع أسلحة مثلاً. وآثرت تقديم خدمات إنسانية في العراق خلال الاحتلال الأميركي على المشاركة في أي قتال.
وحاول رئيس وزراء اليابان «شينزو آبي» قبل سنوات قليلة كسر هذا «التقليد» حين قام بثلاث جولات في الشرق الأوسط دعا فيها إلى وقف الصراعات الإقليمية بالحوار لتحقيق السلام، وهي تدعم حل الدولتين في القضية الفلسطينية وتقدم مساعدات مالية للاجئين أكثر مما تقدمه جميع الدول العربية باستثناء دول الخليج.
وبلغت العلاقات العربية – اليابانية أوجها بزيارة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى طوكيو في العام الماضي في أول زيارة لعاهل سعودي منذ 46 عاماً حين زارها الملك الراحل فيصل في عام 1971. وبدلاً من إقحام نفسها في المشاكل الشرق – أوسطية، تسعى اليابان إلى «الدفع بالتي هي أحسن»، وأقصد بهذا تقديم مساعدات اقتصادية سخية لإعادة إعمار البلدان التي دمرتها الحروب. وهي بهذا وضعت موضع التنفيذ سياستها السلمية التي التزمت بها منذ توقيع اليابان على وثيقة استسلامها على متن المدمرة الأميركية «ميسوري» في عام 1945 عقب إلقاء قنبلتين ذريتين أميركيتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين. صحيح أن اليابان فاجأت العالم في عام 2003 بتأييدها العلني الفوري للغزو الأميركي للعراق على لسان رئيس الوزراء في حينه كويزومي، لكنها اكتفت بإرسال قوات الدفاع الذاتي لتنتشر في مدينة السماوة جنوبي العراق، ومع ذلك سقط يابانيون ضحايا عمليات حفظ السلام الدولية في موزمبيق ورواندا وزائير وأنغولا وفي مرتفعات الجولان وكمبوديا وتيمور الشرقية، ولكن بأعداد رمزية ومهمات ناعمة.
على العرب أن يعرفوا اليوم أن يابان الكيمونو والساموراي والهاريكاري ومصارعة الجودو والسومو لم تعد موجودة إلا في الأفلام اليابانية، وفي بعض الملاعب التي تعتبر الجودو والسومو رياضة فولكلورية تمنح الإحساس بالقوة والمهابة لمن يمارسها. العرب بحاجة إلى استخدام القاموس الياباني في التفاهم مع العصر، مثلما أن اليابانيين بحاجة إلى «لسان العرب» و«البيان والتبيين» و«مقدمة ابن خلدون» لفهم الثقافة العربية بعيداً عن الإرهاب والعنف والتمييز العنصري. ومصر فتحت أبوابها مؤخراً في التعليم لتدريس اللغة العربية بالياباني!

التعليقات