كتاب 11

03:06 مساءً EET

إنقاذ الديمقراطية ليس من مهام البنوك المركزية

يكشف لنا تاريخ الأزمة المالية قصة مثيرة للقلق، بخصوص أولئك الذي يولون قيمة كبرى للرخاء والديمقراطية.
ورغم أن هذا كان ينبغي أن يكون اللحظة التي ترتقي خلالها الحكومات المنتخبة لمستوى الحدث، أخفقت القيادات السياسية المنتخبة في اتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على رفاهية من انتخبوها. في المقابل نجد أن أكثر المؤسسات التي بذلت جهوداً لمعاونة الاقتصادات الوطنية على التعافي، كانت أكثر المؤسسات تكنوقراطية، والتي لا تحمل أي تفويض شعبي مباشر: البنوك المركزية.
وتمخضت الاستجابة الواهنة التي قدمتها الحكومات المنتخبة ديمقراطياً، وصعود نجم البنوك المركزية في الوقت ذاته، عن ظهور نتيجتين. أهدر السياسيون المنتمون للتيار الرئيسي سلطتهم الأخلاقية، الأمر الذي وفر الفرصة لصعود قوى شعبوية داخل أوروبا والولايات المتحدة.
في تلك الأثناء، واجهت السلطات النقدية الكبرى عالمياً اتهامات بفرض سطوتها على نطاق مفرط في الاتساع، الأمر الذي سيظل قائماً ما دامت البنوك المركزية محتفظة بالسلطات والأدوات التي حصلت عليها. ومثلما ذكر بول تكر، النائب السابق لمحافظ بنك إنجلترا في كتابه «القوة غير المنتخبة»، فإن: «مسؤولي البنوك المركزية تحولوا إلى مواطنين بالغي القوة، يعول عليهم الباقون على نحو مبالغ فيه».
من اليابان إلى الولايات المتحدة، عمدت البنوك المركزية بمختلف أرجاء الدول الغنية إلى خفض معدلات الفائدة بدرجة بالغة، وشراء كميات ضخمة من الأصول، في خضم مساعيها لتجنب حدوث انكماش واستعادة النمو. واستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يتمكن هذا التدفق من الأموال الزهيدة في تحفيز مستوى كاف من النمو لشفاء الجراح التي ألمت بالاقتصاد خلال فترة ما بعد الركود، خاصة داخل منطقة اليورو. إلا أن معظم الخبراء الاقتصاديين يتفقون على أنه حال عدم تدخل السلطات النقدية الكبرى على مستوى العالم على نحو حاسم، كانت الفترة التي عرفت باسم «الركود الكبير» ستصبح أسوأ كثيراً وتستمر لفترة أطول.
في المقابل، نجد أن سجل الحكومات المنتخبة ديمقراطياً خلال الأزمة جاء مختلطاً. ورغم تحرك الولايات المتحدة سريعاً نحو إعادة رسملة بنوكها وتوفير محفزات نقدية للاقتصاد، فإن ردود الأفعال التي اتخذتها دول أخرى على الصعيد الاقتصادي جاءت أقل حسماً. داخل المملكة المتحدة، على سبيل المثال، مررت الحكومة التي كان يهيمن عليها حزب العمال بادئ الأمر برنامجاً لزيادة الإنفاق وخفض الضرائب بهدف المعاونة في دفع الاقتصاد نحو التعافي؛ إلا أنه سرعان ما تراجعت الحكومة التي قادها ائتلاف من حزبي الديمقراطيين الليبراليين والمحافظين عن هذه الإجراءات، وأقرت إجراءات تقشفية عقابية تسببت في تأخر تعافي الاقتصاد.
حتى البنك المركزي الأوروبي لم ينجح تماماً في استجابته الأولى للأزمة، ففي ظل قيادة جان كلود تريشيه، اختار البنك عدم الشروع في برنامج لعمليات شراء واسعة النطاق للأصول، وذلك إذعاناً منه لرفض أبدته ألمانيا. عام 2011 زاد البنك المركزي الأوروبي معدلات الفائدة مرتين، في خطوة يجري النظر إليها اليوم على نطاق واسع باعتبارها جاءت سابقة لأوانها، وربما أسهمت في تفاقم أزمة الديون السيادية.
إلا أنه بمجرد تولي ماريو دراغي مسؤولية قيادة البنك خلفاً لتريشيه، اتخذ البنك المركزي الأوروبي منحى مغايراً. وسرعان ما سعى المحافظ الجديد للبنك نحو تهدئة المخاوف من إمكانية انهيار اليورو، معلناً أن البنك المركزي «سيتخذ كل ما يلزم» للحفاظ على العملة الأوروبية الموحدة. ونجح ذلك في تهدئة الأسواق، وعاون منطقة اليورو على استعادة عافيته من الأزمة الاقتصادية.
بعد ذلك، شرع البنك المركزي الأوروبي في برنامج للتخفيف الكمي، الأمر الذي نجح في تفادي مخاطرة الدخول في موجة انكماشية. وإذا كانت منطقة اليورو اليوم قد استعادت عافيتها على نحو كامل، فإن الفضل الأكبر وراء ذلك إلى البنك المركزي الأوروبي.
على خلاف الحال مع البنك المركزي الأوروبي، لم يفعل السياسيون ما يذكر للخروج من حالة السبات التي اعترتهم. في خضم أزمة الديون السيادية، اضطرت حكومات متعثرة في دول مثل إيطاليا واليونان إلى اتخاذ إجراءات تقشفية، مع ارتفاع معدلات الاقتراض لمستويات هائلة. أما ألمانيا، فكان ينبغي لها توفير مزيد من المحفزات النقدية لفترة أطول، والتي كان بعضها سينتقل إلى شركائها داخل منطقة اليورو عبر زيادة الصادرات، الأمر الذي كان من شأنه المعاونة في تقليص حجم الركود.
من ناحيتها، تجنبت دول أخرى تمرير إصلاحات هيكلية ضرورية للغاية، من أجل تعزيز إمكانات نمو الاقتصاد. على وجه التحديد، لم تبذل إيطاليا مجهوداً يذكر لإصلاح منظومة العدالة لديها شديدة البطء والإدارة العامة، الأمر الذي لا يزال حتى يومنا هذا يقيد بدرجة بالغة قدرتها على اجتذاب استثمارات أجنبية ومحلية.
من جانبهم، ربما يدفع أنصار المؤسسات الديمقراطية بحجة أن المشكلة لا تكمن في الديمقراطية على وجه التحديد، وإنما مستوى كفاءة السياسيين أنفسهم. ربما لم تكن أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، شجاعة بما يكفي للشروع في برنامج طويل الأمد للتحفيز النقدي. وبالمثل، فإنه رغم إسراع ماريو مونتي، رئيس وزراء إيطاليا في خضم الأزمة، نحو تنظيم الأوضاع المالية العامة، وتمرير إصلاح تاريخي لمنظومة المعاشات، فإنه بعد ذلك أبدى افتقاره إلى الشجاعة السياسية اللازمة لتعزيز قدرة بلاده على المنافسة.
ورغم ذلك، تبقى جذور المشكلة التي تقيد قدرة الأنظمة الديمقراطية الغنية على التدخل في أزمة ما، أعمق من غياب الروح القيادية. يذكر أن مستويات الديون الحكومية ارتفعت على نحو هائل بلغ نحو 90 في المائة من إجمالي الناتج المحلي داخل منطقة اليورو، وأكثر من 100 في المائة داخل الولايات المتحدة، الأمر الذي يقلص على نحو بالغ من المساحة المتاحة أمام إجراءات تعزيز الإنفاق وخفض الضرائب أثناء أي فترة ركود مستقبلية. بطبيعة الحال لا يعني ذلك أنه ليس باستطاعة السياسيين التدخل إذا دعت الحاجة؛ لكنهم لا يزالون بحاجة ملحة إلى دعم مسؤولي البنوك المركزية لديهم، والذين سيتعين عليهم خفض معدلات الفائدة على نحو بالغ، وربما إعادة إطلاق برنامج التخفيف الكمي للحفاظ على تكاليف الاقتراض منخفضة.
وعليه، فإن القوة التي اكتسبتها البنوك المركزية في الفترة الأخيرة ستبقى بحوزتها حتى بعد انتهاء الأزمة. وعندما تقع الأزمة التالية، سيزداد اعتماد السياسيين – حتى المنتخبين منهم – على التكنوقراط غير المنتخبين أكثر عن أي وقت مضى.

التعليقات