كتاب 11

02:10 مساءً EET

أرجوك… لا تمت صغيراً!

في حياةٍ سابقة، كان الفتى يودع أهله، يجمعون له من المال ما يكفيه، ومن الزاد ما يوصله، يحضنونه جيداً، ويملأون أعينهم من صاحب همّة قد لا يعود.
كان طلب العلم شاقاً، متعباً، بعيداً، يستلزم قبل المال والزاد، همة وراحلة، وقبل ذلك… أماً صبورة، وأباً يوقن أن العلم الجيد دائماً بعيد مجهد ومكلف، لكنه كالمرأة الجميلة يستحق عناء ذوي الذوق من الرجال!
وفي حياةٍ سابقة أيضاً، كان العلم يؤتى إليه، ولا يأتي إلى الناس.
لم تعد تلك الفكرة صائبة صوابها قبل عقود من الآن. أصبحت المدارس متعددة الأنواع، والجامعات كثيرة التخصصات، معلم اللغات قد يكون على بعدِ نقرة في شاشة الحاسب الآلي أمامك، بل وفي متناول هاتفك الجوال، بإمكانك اقتناء العود وبدء الدندنة والدوزنة، وأنت تتابع حركة النوتة الموسيقية على شاشة هاتفك.
هذا المقال ليس مدفوع الثمن من قبل شركات الأجهزة الذكية، لكنه حديث يحمل نبرة الاعتراض على انتهاء متلازمة نهاية الدراسة!
صحيح أن هناك فارقاً بين التعلم والدراسة، لكن المسافة بين التعريفين بقيت سؤالاً موضوعياً وملحاً قبل تعريف المتلازمة أعلاه: هل يمكن حقاً التوقف عن التعلم والدراسة؟ متى؟ أين؟ وكيف؟!
عوداً على بدء متلازمة نهاية الدراسة هي ذاك الشعور الذي جرّبناه جميعاً، الشعور بالتعب والإجهاد من كثرة الواجبات أو قرب الاختبارات، إعياءٌ ذهني يمتد إلى الجسد فلا تجد رغبة في فعل شيء، بل أمنية كبيرة في رأسك وسؤالاً مفاده: متى تنتهي الدراسة؟ لستُ طبيباً بطبيعة الحال، لكن يصاب به الجميع، من طلاب الثانويات الذين يرون الانتقال للمرحلة الجامعية طوق النجاة، لكنهم يفاجأون بتكرر المتلازمة في الفصل الأخير من الدراسة الجامعية، حين تضيق الدنيا في عين الخريج، كلما ذكر أحدهم شُح الوظائف أو قلة الرواتب.
يتزوج أو تتزوج ضحية متلازمة نهاية الدراسة بعد انتهاء ماراثون التعليم النظامي والجامعي، فتجلسهما الحياة على مقاعد محاولة فهم الجنس الآخر. نوع جديد من التعلم!
يصل الطفل الأول، تبدأ مرحلة جديدة من الإعياء الجسدي الذهني اللذيذ الشبيه بمتلازمة نهاية الدراسة، يتعلم الوالدان على مضض، التعامل معه رضيعاً، ثم التعامل معه صبياً، فمراهقاً، فشاباً، وكلما مرت الأيام، تكرر الشعور الممل، واستمر نهر الحياة بالجريان، فمتى يتوقف المتعب المجهد عن التعلم؟!
كلنا يعرف تعريف العجوز القديم: «كل من توقف عن التعلم سواءً كان في العشرين أو في الثمانين، فذلكم العجوز»، وانقلوها عني.
إذن ليس التعلم وحده عملية اختيارية محضة ومستمرة، بل يمكن القول إن الشيخوخة الحقيقية، هي التوقف عن تعلم الجديد، واكتشاف المهارات، ولو كان المتوقف مفتول العضلات لتجاوز سنوات عمره منتصف العشرينات، إلا أنه كهل مصاب بالشيخوخة السلبية، لأنه استسلم لوقف التعلم.
واسمحوا لي أن أقول إن بعض أمثالنا كانت محبطة عندما تعتقد العلم في الكبر كالنقش في الماء، وكأنها تمنعك بمجرد التقدم في العمر من الاكتشاف، والتعلم، والمعرفة!
لا يمُرن عليك يوم دون أن تمرن ذاكرتك، دون أن تستذكر بيت شعر، أو تشارك صديقاً أو حبيبة أغنية جديدة، افتح عينيك جيداً، ستبصر وجبة جديدة، وافتح عينيك على التلفاز، سترى فكرة مرت عليك سابقاً دون أن تنتبه للرسالة الخفية، سوف تبتسم وحيداً… هذه الابتسامة الجديدة هي علامة تعلمك شيئاً جديداً، وإن لم تخبر به أحداً سيدي القارئ.
مدينٌ جداً لحلقة من حلقات «إضاءات»، لشاعر وصديق عزيز، أسر إلى أنه استصعب بحراً شعرياً فأقسم ألا يتعلمه، وحين حاول فهمه والكتابة به استعصى عليه البحر، يقول صديقي الشاعر كأنه يرى الموج أمامه فيمنعه من امتطاء البحر الشعري، الذي رفضه هو بمحض إرادته، ابتسمت يومها وقلت له:
«بحور الشعر ككل الأشياء، لها حدس وكرامة، تمنعها من أن تلين لمن صد عنها، وهي مقبلة عليه».
بإمكان الطالب الجامعي، والشاب القلق من كثرة المعلومات قبل اختبار الثانوية العامة، الاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة داخل المنهج، لا شك أن جزءاً من ذلك يقع على كاهل المعلم والوالدين، لكن فن الاستمتاع بكل لحظة، استعطاف شعور الدهشة الطفولي حين نتعلم شيئاً جديداً بالبقاء معنا لسنوات أطول، هو ما يجعل رجلاً في الخمسين يستيقظ في الخامسة فجراً، ويضبط ساعته كي يركض ساعتين، ويذهب باكراً إلى مكتبه قبل الشباب في العشرين والثلاثين، كم من ستيني أتعب شباباً لم يبلغوا الثلث من سنين عمره؟!
توصي المرأة ابنتها المتجهة لبيت الزوجية: «تبدأ أسوأ أمراض الرجال، حين يتقاعدون يا بنيتي، يحترفون التململ حين يتوقفون عن تعلم مزاياك الجديدة… كوني له جديدة ليكون محافظاً على رشاقته، وإياك والتقاعد المبكر، تبدأ الحياة بالبطء، حين يجلس الرجل على كنبة وسط الدار، ويتابع العالم من خلف الشاشة أو على صفحات الجريدة».
اخرج يا صديقي من المنزل، لا يمنعنك الشيب في رأسك من كسر نمط صعوبة التعلم والاكتشاف في الكبر، جدف وتعلم الغوص. أنتم أيها الشباب:
استمتعوا برحيقِ العمر، لا تنظروا للمراحل نظرة الحصان العجوز لحاجز بعيد، اقتحموا، أدهشوا أنفسكم ومن حولكم، وتذكروا عتاب أبي الطيب، الذي لا يموت:
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمام
تمام القدرة: تجويد كل شيء، ولا يتم ذلك إلا بالاستمتاع جيداً، حتى بإشارات الطريق!

التعليقات