تحقيقات

03:15 مساءً EET

علاقات صداقة تجمع نظام الملالي باليهود منذ مئات الأعوام‎

منذ العصور القديمة، كانت علاقات الفرس واليهود مرتبطة بتقلبات التاريخ، وعرف اليهود لقرنين من الزمان ازدهاراً في بلاد فارس، وتم تأسيس مجتمع يهودي (مزراحي) منذ أكثر من 2700 سنة في مناطق خراسان وطهران. ويعتبر هذا المجتمع الآن من أكبر الجاليات اليهودية في الشرق الأوسط، خارج ما يعرف ب«إسرائيل». ويقدر عددهم بنحو 25000 نسمة، ويمثلهم قانونياً نائب في المجلس أو البرلمان الإيراني. والحقيقة أن العديد من الشخصيات «الإسرائيلية» الشهيرة خرجت من هذه الجالية: كالرئيس السابق للاحتلال «الإسرائيلي»، موشيه كتساف ورئيس الأركان السابق ووزير الدفاع شاؤول موفاز وكذلك نجم البوب كوبي شيموني. ولا شك في أن آخرين من أوروبا الشرقية جاملوا أوتعاملوا مع هذا المجتمع، حيث وجدوا ملجأ في إيران خلال الحرب العالمية الثانية ليستقروا بعدها فيما بات يعرف بدولة «إسرائيل» ويسمى هؤلاء باسم «أطفال طهران»، مثل أفيغدور بن غال أحد رجالات حرب أكتوبر.
ومنذ أن أعلن عن قيام دويلة الاحتلال في مايو 1948، حافظت «إسرائيل» دائماً على علاقات ممتازة مع إيران البهلوية التي اشتركت معها في نفس الإرادة لاحتواء أو للوقوف في وجه المعسكر العربي. وكان الشاه ثاني زعيم دولة ذات أغلبية مسلمة يعترف ب«إسرائيل» بعد تركيا.
ومنذ نهاية الخمسينات (1950)، أرسلت «إسرائيل» إلى طهران وفداً يعمل كأنه ضمن سفارة حقيقية في انتظار الاعتماد الرسمي للسفراء الذي سيجري لاحقاً. وكان السياسيون «الإسرائيليون» الرئيسيون يذهبون إلى إيران وكذلك معظم قادة الجيش الإمبراطوري الإيراني، يذهبون إلى «إسرائيل» ليحللوا انتصارات الجيش «الإسرائيلي» على الجيوش العربية.
وكان طيارو الفانتوم الإيرانيون يتدربون في النقب لصقل خبراتهم مع العسكريين الإسرائيليين. وفي عام 1973، حشد الشاه جيشه على الحدود العراقية للضغط على بغداد، وبالتالي الحد من حجم قوة التدخل العراقية المرسلة لمحاربة «إسرائيل» في سوريا. هذا التحالف الضمني بين طهران وتل أبيب سمح للكثير من اليهود العراقيين بالهروب من بلدهم للوصول إلى «إسرائيل» عبر طهران. ونجد أن هذه العلاقات الوثيقة ظهرت على المستوى الاقتصادي والزراعي والتجاري والطاقوي.

وعلى مدى خمسة وعشرين عاماً، كانت «إسرائيل» تحصل على النفط من إيران، التي كانت تمول بناء خط أنابيب إيلات – عسقلان في حين وفرت شركة طيران العال صلة مباشرة بين العاصمتين. فضلاً عن أن التعاون العسكري كان يسير على قدم وساق بالفعل، وكذلك الاتصالات بين الموساد والسافاك. وهكذا كانت إيران وإسرائيل الحليفين المميزين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وكانت جيوشهما مجهزة بنفس المعدات الأمريكية. وقبل ستة أشهر من سقوط الشاه، عقد الجنرال الإيراني حسن توفنيان ونائب وزير الدفاع، اجتماعاً في القدس مع أعلى السلطات «الإسرائيلية» لتعزيز العلاقات العسكرية والتعاون في المواد البالستية للنظر في غارة جوية مشتركة ضد محطة الطاقة النووية العراقية أوزيراك (تموز) المستقبلية.
وفي شباط (فبراير) 1979، كان سقوط الشاه والثورية الإيرانية بمثابة رعدتين قويتين في سماء الشرق الأوسط. ويعتقد العديد من الإسرائيليين أن الجمهورية الإسلامية ليست سوى قشة تنتظر لهباً ليحرقها، وأنه بمجرد التخلص منها، سوف يجدد الإيرانيون علاقاتهم القوية مع الدولة العبرية لإقامة جبهة مشتركة جديدة ضد العرب. وكان إسحاق رابين أكد في وقت لاحق على هذا التعاطف الطبيعي لليهود تجاه الإيرانيين فقال: «على مدى ثمان وعشرين سنة، كانت إيران صديقاً مقرباً ل«إسرائيل». وإذا استمرت هذه الصداقة طوال هذا الوقت، فلماذا لا يمكن أن تستمر بمجرد التخلص من هذه الفكرة المجنونة وهي الأصولية الشيعية؟». بعد ذلك، اعتقد مناحم بيغن وأرييل شارون أن من مصلحتهما إبقاء الجسور بين «إسرائيل» وإيران مفتوحة ولذا فإن إرادة إيذاء النظام العراقي تفسر هذا الموقف إلى حد كبير. والرؤية من «تل أبيب» كانت مثلها مثل طهران، حيث كان يجب فعل كل شيء لعرقلة طريق صدام وإضعاف جيشه. ففي سبتمبر/ أيلول 1980، وبعد أيام فقط من مهاجمة العراق لإيران، اختار مجلس دفاع محدود برئاسة مناحيم بيغن دعم نظام آية الله الخميني وفقاً للمبدأ القديم، «أعداء أعدائي هم أصدقائي». في المقابل، كان رئيس الوزراء «الإسرائيلي» يأمل في التفاوض على إعادة اليهود الإيرانيين إلى «إسرائيل».
ومنذ خريف العام 1980، سلمت «إسرائيل» إلى إيران (وفقاً لعملية الصدف) مخزونات كبيرة من الأسلحة والذخيرة وقطع الغيار عن طريق يعقوب نمرودي، وهو يهودي عراقي، الذي كان آخر ملحق عسكري إسرائيلي في طهران وكان محل ثقة كبيرة لدى الإيرانيين. تلك المبيعات من الأسلحة سمحت لإسرائيل بتقديم خدمة للأمريكيين الذين كانوا يسعون إلى إيجاد وسطاء لتزويد النظام الشاب للملالي بالمواد والذخائر التي وعدوا بها مقابل إطلاق سراح الرهائن في السفارة الأمريكية، ولكن أيضاً إيجاد فرص عمل جديدة لمصانع الأسلحة «الإسرائيلية». من جهتها ردت طهران هذا المعروف على طريقتها فعندما دمرت الطائرات الحربية «الإسرائيلية» محطة تموز للطاقة النووية في السابع من حزيران / يونيو 1981، كان لديها صور استطلاعية جوية مرسلة من قبل إيران بعد الغارة الأولى للقوات الجوية الإيرانية ضد الهدف نفسه، قبل بضعة أشهر.

 

فضيحة إيرانجيت

وكان رونالد ريغان المتورط في فضيحة إيرانجيت (8)، هو الذي أجبر «الإسرائيليين» على وقف ذلك التعاون العسكري في خريف عام 1986. في ذلك الوقت، فاوضت «إسرائيل» لصالح طهران تزويد واشنطن لطهران صواريخ تاو وهوك مقابل إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين المختطفين في لبنان. ووضعت إملاءات الولايات المتحدة حداً لخطة بيع 18 مقاتلة من طراز فانتوم، و46 قاذفة صواريخ خفيفة سكاي هوك و4 آلاف صاروخ جو-جو ومضادة للدبابات، وهي صفقة كانت بالفعل تثير لعاب الوسطاء الإسرائيليين والإيرانيين (9)! وقد أعطت إيرانجيت لآية الله الخميني الفرصة لتنظيف دوائر السلطة في الوقت الذي توصم فيه «إسرائيل» «بالشيطان الصغير». !! والهدف من ذلك كان فقط إغواء الجماهير العربية وتحويل الانتباه عن النكسات التي عانتها إيران أثناء الحرب على العراق.
ولقد أدى موت آية الله الخميني وانتخاب هاشمي رفسنجاني كرئيس في العام 1989 إلى إعادة إشعال فتيل الاتصالات بين «تل أبيب» وطهران. وفي إطار هذه الولاية لرفسنجاني (1989-1997)، ومن ثم عهد محمد خاتمي (1997-2005)، حافظ «الإسرائيليون» والإيرانيون على حوار غير رسمي، يسمح لهم بمناقشة القضايا الإقليمية، والإبقاء على أفضل طريقة لاحتواء صدام حسين، حتى لو كان الوهن أصاب هذا الأخير، بسبب العقوبات الدولية. وكان مبعوثون «إسرائيليون» وإيرانيون يجتمعون بانتظام في نيويورك وجنيف وفيينا. وكان عليهم أن يحافظوا على الأرض على شكل من التوازن بين «إسرائيل» وإيران لتفادي تصاعد التطرف، بما في ذلك مع حزب الله.
إن وصم «إسرائيل» بالشيطان الصغير دائماً، سمح لإيران بالظهور كبطل للقضية الفلسطينية.
ذلك الخطاب لم يكن ليخدع أحداً في «تل أبيب»، ولا حتى شاؤول موفاز، المولود في طهران ورئيس أركان الجيش «الإسرائيلي»، الذي درس وعرف تماماً سلوك الإيرانيين. فمثل هذه الشخصيات كانت تدرك أن السياسة الواقعية يجب أن تسود على الأيديولوجية. وحتى بنيامين نتنياهو، خلال فترة ولايته الأولى كرئيس للحكومة (1996-1999) لم يجد أي خطأ في الإبقاء على هذا الحوار. وفي العام 2003، وبينما كانت الولايات المتحدة تهاجم العراق، بدأ الرئيس خاتمي بإجراء تقارب مع «إسرائيل» واقترح خطة سلام، إلا أن إدارة الرئيس جورج بوش الابن رفضته لأنها كانت تريد المزيد من الضغط على طهران. الرئيس خاتمي من جهته لم يقطع الأمل، بل تحدث عن التطبيع المحتمل للعلاقات بين إيران و«إسرائيل». من جانبه، حاول شمعون بيرس، الذي عرف الإيرانيين جيداً لسنوات عديدة، إقناع شريكه القديم آرييل شارون بتجاوز الفيتو الأمريكي والبدء بالمفاوضات مع طهران، بحجة وجود تقارب بوجهات النظر حول العديد من الملفات

مجتمعان متقاربان بشكل مدهش

وفي كثير من النواحي، وعلى الرغم من أن كلاً من البلدين لا يزال هو الخصم المتخيل في الظاهر للآخر، فإن المجتمعين الإيراني والإسرائيلي متشابهان: فلا يوجد بينهما نزاع إقليمي، وكلاهما ينظر بعين الريبة لجيرانهما العرب ويطوران نفس عقدة جنون العظمة المتمثلة في «القلعة المحاصرة» القريبة والتي ربما تقترب إلى مرض الانفصام في الشخصية. ولا شك في أن الفرس من جهتهم يحفظون في ذاكرتهم الغزوات الكثيرة التي عانوها على مر التاريخ، ويتذكر «الإسرائيليون» كذلك ما يعرف بالهولوكوست والحرب «الإسرائيلية» العربية الأولى. إن هذه التجربة المشتركة هي التي عززت هذا التحالف الإيراني «الإسرائيلي» في عهد الشاه وهي التي تفسر لماذا يتفاعل كل من هذين المجتمعين كأقلية مهددة تواجه أغلبية كبيرة يشتبه في أنها تسعى إلى إبادة الشيعة من جهة (15٪ من المسلمين) واليهود من جهة أخرى (6 ٪ من سكان الشرق الأدنى ). وهذا يفسر لنا أيضاً التحالف الشيعي الإيراني مع روسيا الأرثوذكسية – وهما دولتان تتوقان إلى الحصول على مكان قوي في منطقة مضطربة – بالإضافة إلى التعاطف الأيديولوجي – وتوحيد الأصولية الأمريكية المسيحية واليهودية «الإسرائيلية». وعلى كلا الجانبين، هناك مجتمعات يحركها إحساس عميق بالتجذر التاريخي ولكن أيضاً بالتفوق على الجيران العرب. هذان المجتمعان يجتذب شبابه أسلوب الحياة الأمريكي، ولذا يحاولان التوفيق بين الحداثة والهوية والتقاليد والتكنولوجيا العالية والأبحاث الأساسية والثقافة ومفهوم القوة الناعمة، وربما يظهر ذلك في ثراء إنتاجهما الأدبي والسينمائي، فضلاً عن إرادتهما فرض أنفسهم في بعض المجالات الرياضية.
أما بالنسبة لزعمائهم، فهم يظلون عقلانيين تماماً ويحللون بطريقة مناسبة للبيئة الإقليمية، ويقيمون ببراعة توازن القوى. وسواء كان ذلك في طهران أو في «تل أبيب»، فإن المحللين والخبراء الاستراتيجيين يحللون الأمور بمنطق لعبة الشطرنج، ويفكرون في إجراء عدة حركات مقدماً ويضعون خططاً بديلة اعتماداً على ردود الفعل المحتملة لخصومهم. ويمكن لكاتب هذا المقال أن يشهد على التشابه الفكري والسلوكي المدهش المختلف تماماً عن الموقف المعتاد لمحاوريه العرب.

لعبة الردع وصنع العدو «الفزاعة»

وفي إيران كما في «إسرائيل»، تبدو لعبة الردع المتبادل متكاملة تماماً. وتكمن المشكلة في أنها تتعارض مع الاعتبارات السياسية الداخلية التي تخلط الأوراق أحياناً وتفضّل الميل إلى الفصائل المحافظة الأكثر شعبية.
ولو عدنا إلى صيف العام 2003، نجد أن سقوط صدام حسين ووضع العراق تحت الوصاية قد غير الموقف حيث خسرت إيران و«إسرائيل» عدوهما الأفضل. وفي طهران كما في «تل أبيب»، الجميع يعلم أنه لم يعد بحاجة إلى توفير حليف خلفي لمواجهة نظام البعث الذي هزمته واشنطن. وسيتعين على الحكومات القائمة في كلا البلدين أن تجد فزّاعة أخرى لتبرير سياساتها الأمنية المشددة والإنفاق العسكري الهائل، ناهيك عن تسويفهما المزدوج للقضايا الرئيسية: كالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي لا غنى عنها على الجانب الإيراني والتنازلات اللازمة في الملف الفلسطيني على الجانب «الإسرائيلي». وأفضل شيء في هذا إحياء الأوهام القديمة؟ كإشارة «إسرائيل» دائماً إلى مسألة تسارع البرنامج النووي الإيراني بعد فشل المفاوضات بين طهران والترويكا الأوروبية في عام 2003. والحقيقة أن احتمال حصول إيران في نهاية المطاف على القنبلة الذرية يثير قلق الاستراتيجيين الإسرائيليين ليس لأنهم يخشون من أن طهران ستستخدم هذه القنبلة ضدهم أو تعطيها إلى جماعة إرهابية (فهم يعرفون أن قادة إيران أكثر عقلانية من ذلك )، ولكن لأنهم يريدون أن تكون «إسرائيل» القوة النووية العسكرية الوحيدة في الشرق الأوسط وحينها يمكنها الاستمرار في فرض هيمنتها دون التعرض لخطر التصعيد مع جهة فاعلة أخرى قادرة على تحدي احتكارها لهذا الأمر. علاوة على ذلك، يخشى المسؤولون «الإسرائيليون» من حدوث تسابق على الانتشار النووي في المنطقة، الأمر الذي من شأنه أن يشجع تركيا والمملكة العربية السعودية ومصر للحصول بدورهم على هذا السلاح المتفوق.
وفي إيران، ترى السلطة الحاكمة أن امتلاك ترسانة نووية حتى ولو كانت محدودة هو وسيلة لردع أي معتدٍ محتمل. فالحرب بين إيران والعراق صدمت السكان وظل الشعار الوحيد: «لن يعود ذلك أبداً!»
إن مثل هذه الترسانة ستضمن لإيران أيضاً استقلالها عن هيمنة القوى الخارجية، سواء كانت روسيا أو المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة.
ويبدو أن التصعيد الكلامي بين طهران وتل أبيب قد اشتد بعد انتخاب أحمدي نجاد الرئيس الشعبوي للرئاسة الإيرانية في العام 2005. فهذا الأخير ضاعف من الاستفزازات المعادية للسامية، معتبراً أن «إسرائيل» يجب أن «تمحى من على الخريطة»، وقد وجد دعماً من قبل المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي يسارع دائماً إلى المزايدة حول هذا الأمر في خطاباته. هذا المناخ الحاد تدهور خلال صيف عام 2006 أثناء الحرب بين «إسرائيل» وحزب الله في جنوب لبنان حينها اتهم «الإسرائيليون» طهران بتوجيه حزب الله عن بعد، واصفين إيران بأنها«تهديد وجودي للدولة العبرية». وردت الحكومة الإيرانية بدورها بإدانة رغبة «إسرائيل» في القضاء على الميليشيات الشيعية الوحيدة التي تعتقد أنها تستطيع الدفاع عن حقوق الطائفة الشيعية اللبنانية. ومن خلال تبني لهجة متواضعة، كان الرئيس أحمدي نجاد يأمل دون شك في توحيد المحاربين القدماء المحبطين الذين يشكلون قاعدته الانتخابية ويخفون الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية. ومنذ ذلك الحين، باتت «إسرائيل» وإيران تنظر كل منهما إلى الأخرى على أنها خصمها اللدود.
إن عودة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى السلطة في عام 2009 وإعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد المثير للجدل بعد بضعة أشهر فقط زاد من حدة التوتر بين الزعيمين فكلاهما لديه مصلحة في شيطنة الآخر لأنهما جعلا من عدائهما المتبادل الأساس للمتاجرة السياسية. فالأول يبرر تقاعسه عن الملف الفلسطيني باسم أولوية التهديد الإيراني والثاني يحاول إضفاء الشرعية على إعادة انتخابه وتسريع البرنامج النووي بالتلويح بشبح الهجوم «الإسرائيلي» المحتمل وبالتهديدات المحجبة لتل أبيب وبضلوعها في اغتيال علماء مشاركين في هذا البرنامج. ومن جانبها، فإن الدول العربية التي تخشى وجود تحالف بين اليهود والفرس، ربما تضيف القليل من الزيت إلى النار.

الأزمة العربية والحرب في سوريا

إن ما يسمى بالثورات العربية أو (الربيع العربي) في 2011 أثار الذعر في «إسرائيل» فقد شعر الاستراتيجيون «الإسرائيليون» بأنهم عادوا أربعين سنة إلى الوراء وسط بيئة غير مستقرة وغير متوقعة. من جانبهم رأى الاستراتيجيون الإيرانيون في هذه الثورات فرصة مثالية للدفع ببيادقهم في المنطقة. وعملوا على توقع وصول حكومات إلى السلطة، قريبة مقربة من حركة الإخوان المسلمين، الحريصة على تشجيع إقامة الجمهوريات الإسلامية.
وفي ربيع العام 2013، أشار انتخاب حسن روحاني إلى مخرج تم التفاوض عليه، كما اعترف بذلك العديد من مسؤولي الأمن الإسرائيليين علانية، وربما أيضاً بشكل غير رسمي لبعض الخبراء الإيرانيين. فالرئيس الجديد البراغماتي والمحافظ المعتدل مد يده إلى الغربيين ومارس الانفتاح نحو «تل أبيب» وأكد على أنه مستعد لتطبيع العلاقات بين البلدين حالما تبرم «إسرائيل» اتفاقاً رسمياً يقرّر مصير الفلسطينيين بطريقة عادلة. والحقيقة أن الأولوية بالنسبة لطهران، لم تعد الصراع ضد الدولة العبرية، بل احتواء المملكة العربية السعودية التي أصبحت العلامة البارزة على الحملة ضد إيران. وبما أن «إسرائيل» غدت بالنسبة للحكومة الإيرانية الجديدة، في الصف الثاني فإن التفاوض على تجميد برنامجها النووي مع( P5 + 1)، جعلها تدرك أنه سيتعين عليها تقديم تنازلات بشأن هذه المسألة. والواقع أن إيران عززت دعمها المتواصل للحوثيين في اليمن لتكسب وضعاً أفضل في مواجهة السعودية… ولن ينتهي هذا الدعم إلا عندما يتفق البلدان على مفاوضات إقليمية كبرى ؛ وذلك مثلما حدث أيام الشاه حين دعم البشمركة الكردية في أوائل السبعينات للضغط على العراق وإجبار بغداد على تقديم تنازلات حول وضع شط العرب (اتفاقية الجزائر 1975).

الردع غير المتماثل مقابل الردع التقليدي

إن إبرام الاتفاق حول القضية النووية، في 14 يوليو 2015، بدل المنظور بشكل جذري، وزاد من غضب «إسرائيل»، فها هي إيران، قد أعيد دمجها تدريجياً في محفل الأمم، وتغازلها العديد من الدول الأوروبية والآسيوية واستطاعت الجمهورية الإسلامية استئناف صادرات النفط على نطاق واسع واستعادة الأموال المجمدة في البنوك الأوروبية والأمريكية.. وهنا لا يمكن للمسؤولين الإسرائيليين إلا أن يدركوا ذلك بالفعل وباتوا أكثر تأثراً حين لاحظوا أن هذا الأمر جاء في وقت ظهور «داعش»، التي حققت اختراقات مذهلة في العراق وسوريا ومهدت السبل لمسألة انتشار حزب الله في سوريا. وهكذا وجدت إيران في الميليشيات الشيعية المدعومة منها ورقة مناسبة تلوح بها لقتال الخلافة التي أعلنت عن نفسها وقتال الميليشيات المتشددة السنية التي تستقر بالقرب من الحدود «الإسرائيلية». ولا شك في أن حزب الله انتهز الفرصة للتموضع بالقرب من مرتفعات الجولان لزيادة الضغط، إذا لزم الأمر، على «إسرائيل». وفي «تل أبيب»، هناك نقاش حيوي بين أولئك الذين يؤيدون الوضع الراهن ويعتبرون أن بلادهم لا مصلحة لها بالانخراط في الحرب الأهلية السورية، وأولئك الذين يتصورون سقوط بشار الأسد لصد حزب الله، وتمزيق المنطقة أكثر قليلاً وتقسيم خصوم «إسرائيل». وهنا تم إغلاق هذا النقاش على يد الروس والإيرانيين الذين تدخلوا مباشرة في سوريا لإنقاذ نظام بشار الأسد المتطرف الذي استثمروه لسنوات عديدة.
ومنذ العام 2016، يقوم الروس والإيرانيون وحزب الله بإبادة«الجهاديين» بكل أصنافهم واستعادوا الأراضي التي فقدها النظام السوري. ومن الواضح أن هذا الأخير، رغم ضعفه، قد نجا، وأن الإيرانيين قد فازوا بالنقاط في مباراتهم ضد السعودية. ومن الآن فصاعداً باتت المشكلة بين «إسرائيل» وإيران سياسية واستراتيجية. ففي «إسرائيل» بنى بنيامين نتنياهو صندوقه الانتخابي على خط لا هوادة فيه ضد إيران ولا يستطيع أن يتراجع عن هذا الارتباط دون أن يلعب بمصيره ويخاطر ببقائه السياسي، في اللحظة التي يتعرض فيها للتهديد من اليسار ومن اليمين المتطرف. ومع ذلك وجد نتنياهو نفسه في مواجهة تناقضاته فعلى الرغم من أنه يتفاخر بأنه يمتلك علاقات ممتازة مع فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، إلا أن الأول يبقى الشريك الاستراتيجي لإيران في الشرق الأوسط (حتى لو كان يمنعه هذا من الوصول إلى الساحل السوري، في حين يتفاهم الثاني مع الكرملين لتقاسم المنطقة إلى منطقتي نفوذ، والاعتراف الضمني بالقيادة المستدامة لروسيا وإيران على سوريا.

نظام الملالي في إيران

إن نظام الملالي في إيران، بني على التعبئة الأيديولوجية للدفاع عن المسلمين المضطهدين ونشر الإسلام السياسي الذي سيكون من الصعب أن يستسلم، على الأقل علانية، إلا إذا فضل بوضوح الخطاب القومي الواقعي على أساس المصالح الجيوسياسية والاقتصادية ل«بلاد فارس الخالدة». لقد كان هذا الخطاب واحداًَ من التحديات التي واجهت إعادة انتخاب الرئيس حسن روحاني في مايو 2017، وهو الذي استأثر بالمناقشات المحيطة بتعيين مرشد جديد في نهاية المطاف. هذا المنظور يقلق المحافظين والحرس الثوري الذين يخشون من فقدان قوتهم ومداخيلهم إذا اعترفت إيران بإجراء اتصالات مع «إسرائيل» وانفتحت على نطاق واسع جداً على الغرب. والواقع، أن العديد من الأوروبيين يشترطون الانفتاح على إيران إذا قام بشكل فعال بمحاربة الفساد والغموض الذي يعانيه المجتمع الإيراني. وفي هذا الصدد، فإن قرار الرئيس روحاني بالمشاركة بنشاط في إعادة إعمار سوريا وهو ما يمكن أن يفسر على أنه وسيلة للسماح للحرس الثوري بالبحث عن الثراء في سوريا والعراق، ليقل بالموازاة نفوذه الاقتصادي في إيران.
اليوم وبينما تبدو كل المؤشرات تدفع إلى الاعتقاد بأنه يجب على إيران و«إسرائيل» أن يدفعا نحو استئناف الحوار لبناء مستقبل المنطقة بشكل أكثر فعالية لمكافحة التهديدات المشتركة، يتسلح الجانبان برادع مزدوج يسعيان جاهدين كي يعترف به كل منهما ألا وهو الترسانة النووية. وفي هذا الصدد نجد أن لدى الإسرائيليين ترسانة نووية كبيرة وصواريخ بالستية (أريحا) وقاذفات من نوع F-15I، F-16I وF-35 (الشبح) القادرة كلها على الوصول وبسهولة إلى أي نقطة في الأراضي الإيرانية على الرغم من وجود بطاريات صواريخ جو أرض من S-300 التي قدمتها روسيا في عام 2015.
في المقابل، نجد أن الإيرانيين يدركون أن صواريخهم التقليدية، التي عفا عليها الزمن، غير قادرة على تجاوز منظومة الدفاع «الإسرائيلية». ومع ذلك فهم يعرفون أنه يمكنهم الاعتماد على الصواريخ البالستية المحملة برؤوس حربية تقليدية وكذلك على حزب الله اللبناني (سواء بمقاتليه المحنكين وترسانته من الصواريخ والقذائف بعيدة المدى) ليمارسوا ردعاً غير متكافئ على «إسرائيل». وعلى كلا الجانبين، يراهن كل منهما على الهجوم الإلكتروني (الإنترنت) لردع الطرف الآخر بإطلاق أي أعمال عدائية. ومن وجهة النظر الاستراتيجية، نجد من الواضح أن حزب الله والصواريخ البالستية الإيرانية ربما هي الحل الوحيد ضد السلاح النووي «الإسرائيلي» والقوة الجوية الهائلة. السياسيون «الإسرائيليون» الذين ينظرون من جهتهم إلى ثقل التاريخ، يرفضون النظر في أقل قدر من الضعف يمكن أن يواجهوه بل ويجدون صعوبة في قبول ذلك ولذا أعلن وزير الدفاع السابق موشيه يعلون غير متردد بالقول: «الفساد في «إسرائيل» أخطر بكثير من إيران وحزب الله».

ثلاثة سيناريوهات تحدد مستقبل العلاقات «الإسرائيلية» الإيرانية

هناك ثلاثة سيناريوهات ترتسم بين إيران و«إسرائيل» وتحدد خريطة المستقبل لعلاقتهما وللمنطقة . وإذا كان من المستحيل معرفة أي من هذه السيناريوهات الثلاثة يمكن أن يسود، إلا أن هناك شيئاً واحداً أن المنطقة – وكلا الطرفين – يعيشان لحظة محورية .. وهذه السيناريوهات هي :

السيناريو المتفائل
فمن خلال الاستفادة من الموت غير المتوقع للزعيم الأعلى، فإن المحافظين المعتدلين، المدعومين بجزء من الباسدران( الحرس الثوري)، يعتبرون أنفسهم أقوياء وشرعيين بما يكفي للسماح لبروز مرشد – أو مجلس للتوجيه – مواتٍ لتسريع انفتاح إيران على العالم. وتشعر الجمهورية الإسلامية الآن بالوحدة وربما لم تعد تخاف من رؤية نموذجها السياسي ينهار ولذا فهي تسمح لنفسها بأن تطالب علانية بسياسة أكثر وطنية وأقل كهنوتية، وأن تدير الفضاء الواقع تحت تأثيرها دون أن تسعى إلى توسيعه. ويبدو أن نقل السكان الشيعة إلى بعض النقاط الرئيسية في سوريا، وكذلك الإعلان مؤخراً عن تحمل مسؤولية إعادة إعمار البلاد من قبل إيران هو جزء من هذا المنطق.
على الجانب «الإسرائيلي»، نجد أن انتخاب رئيس وزراء براغماتي جديد وشجاع، وصاحب رؤية ومنفتح على مثل هذا الحوار سيسمح للطرفين بتخفيف التوتر الإقليمي، وإقامة أسلوب عمل جديد وخلق منطقة عازلة على طول الحدود الشمالية لإسرائيل. وهنا لا بد من الدخول في حلقة حميدة: فإيران ستصدر النفط ومشتقاته إلى البحر المتوسط، وسيم دمج حزب الله في الجيش اللبناني وستعمل «إسرائيل» بكامل طاقتها على الاستفادة من حقول الغاز البحرية، دون ما خوف من اندلاع عنف على طول الحدود اللبنانية وسيحدث تطبيع تدريجي بين إيران والولايات المتحدة. وطالما أن الإسرائيليين والإيرانيين يتحدثون مع بعضهم البعض ويتفاوضون فلماذا ستكون واشنطن أكثر ملكية من الملك؟ وعلى المدى المتوسط، ستتفق إيران وإسرائيل على التعاون القطاعي في إدارة المياه العذبة والنظر في العوامل البيئية (مكافحة التلوث) – وهما مجالان حيويان لإيران وتبرع فيهما «إسرائيل». ومن خلال طمأنة كل من الفاعلين، وبزيادة الضغط بشكل غير مباشر على الفصائل الأكثر تطرفاً في غزة ورام الله والقدس، يمكن أن يؤدي هذا التقارب بين إيران و«إسرائيل» إلى تقدم كبير في القضية «الإسرائيلية» الفلسطينية.

السيناريو المتشائم

من خلال الاستفادة من الاستئصال المؤقت لداعش، تشجعت إيران في سوريا وأسست قواعد لحزب الله بالقرب من مرتفعات الجولان. وسرعان ما ستندلع الأحداث على طول خط وقف إطلاق النار القديم وسترتفع النبرة بين «إسرائيل» وإيران. وسيترك البلدان الوضع يتأزم أكثر من أي وقت مضى، لأنهما على يقين من أنهما مدعومان من حلفائهما: فإسرائيل تلقى دعمها من الولايات المتحدة، أما إيران فتتلقى الدعم من روسيا والعراق وسوريا. وهذا هو السيناريو الذي تم التخوف منه خلال قضية سعد الحريري في تشرين الثاني 2017، المشتبه في خضوعه للرياض لتشجيع «إسرائيل» على شن الهجوم. وعلى الرغم من الدعوات إلى توخي الحذر من قبل كبار الضباط في الجيش «الإسرائيلي» والموساد، إلا أن الحكومة «الإسرائيلية» ستشن هجوماً واسعاً على لبنان وجنوب سوريا لمحاولة القضاء على حزب الله مما قد يؤدي إلى تحول هذا الهجوم إلى صراع إقليمي. من جهتها ستقوم إيران بإرسال قوة استكشافية إلى سوريا لصد القوات «الإسرائيلية»، وستعمل روسيا على تقوية مواقعها على طول الساحل السوري للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية. أما تركيا التي أصبحت معزولة بشكل متزايد عن الساحة الدولية، فستنتهز الفرصة لتطوير بيادقها الخاصة في العراق وسوريا. وسيطالب العراق الميليشيات الشيعية بمحاربة الجيش التركي واستعادة السيطرة على المحافظات الكردية. من جهته سيستخدم حزب الله جزءاً من ترسانته الاستراتيجية ضد «إسرائيل». والنتيجة ستكون عمليات انتقامية رهيبة ضد لبنان وسوريا، وهو ما سيخلق مناطق خالية من أي وجود حكومي، ربما سيملأها بسرعة رجوع الجهاديين. وسيستغل المجلس الاستشاري «الإسرائيلي» المصغر هذا الارتباك العام لشن ضربات ضد المنشآت النووية الإيرانية، وسيؤدي ذلك إلى إطلاق الصواريخ البالستية الإيرانية ضد العديد من المدن «الإسرائيلية»، وكذلك ضد محطة ديمونة للطاقة النووية. من جهتها ستتدخل الولايات المتحدة المذعورة، مباشرة لاحتواء الهجمة الإيرانية المحتملة ضد حليفها «الإسرائيلي». وسيتحول هجوم «إسرائيل» الرادع إلى صراع كبير مكلف ستستفيد منه الصين وروسيا وتركيا في نهاية المطاف.

السيناريو الواقعي

كثيرون في إيران وفي «إسرائيل» يدركون بشكل بديهي قيمة الحوار غير الرسمي بينهما، لكنهم يشعرون أنه من السابق لأوانه إعادة البدء به. وعلى الجانبين، يتعاون الشعوبيون والمحافظون من أجل تحسين مواقفهم على الأرض، بينما يرفع البراغماتيون شعار الرهانات. ففي طهران، يقتنع معظم القادة بأن المعركة ضد المملكة العربية السعودية تظل هي الأولوية ويجب عليهم أولاً إضعاف الرياض للتفاوض مع «تل أبيب» وهم في موقف أكثر ملاءمة. أما في «إسرائيل»، فتبقى الحكومة التي تخشى تقديم تنازلات بشأن القضية الفلسطينية تحت تأثير الولايات المتحدة وروسيا، حازمة للغاية وتسعى أولاً إلى تقليم أظفار حزب الله دون الذهاب إلى حد إثارة صراع إقليمي، من أجل تقليص منطقة العمل الإيرانية في اليوم الذي سيتحدث فيه الطرفان بشكل حتمي.
ومن غير المرجح أن تتحقق هذه الفرضية ما دام بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء وعلي خامنئي هو المرشد الأعلى. ولكن بعد رحيلهما، كل الآمال يمكن أن تتحقق ويمكن للمرء أن يتصور أن جنرالاً إيرانياً مثل قاسم سليماني، قائد قوة القدس، سيوافق على الحوار مع رئيس أركان إسرائيلي سابق. فبعد كل شيء، كان مناحيم بيغن في «إسرائيل» هو الذي صنع السلام مع مصر.

التعليقات