كتاب 11

03:07 مساءً EET

المنتحرون عربياً

حسب معطيات منظمة الصحة العالمية، فإن الانتحار يمثل أحد الأسباب المهمة للوفاة، حيث إنه ينتحر شخص كل 40 ثانية، أي 800 ألف شخص سنوياً. وهو رقم مفزع وصادم لما ينطوي عليه فعل الانتحار نفسه من أقسى المعاني التي تفيد بدورها أعلى درجات الاغتراب واليأس.
طبعاً الانتحار ظاهرة عالمية، والبلدان التي تتصدر هذه الظاهرة هي اليابان، وسريلانكا، وموزمبيق، وتنزانيا، والنيبال، وكازاخستان… وكما نلاحظ، فإن البلدان العربية ليست في قائمة الدول الأكثر انتحاراً خلافاً لظواهر أخرى هي عربية بالأساس.
لكن في السنوات الأخيرة أصبح موضوع الانتحار أكثر تداولاً في البلدان العربية بشكل يكشف عن وجود مشكلة بصدد التزايد في مجتمعاتنا، حتى ولو كانت لم تبلغ بعد شروط الظاهرة.
لا شك في أن الانتحار ظاهرة نفسية في المقام الأول، وأنها من مشمولات المختصين في الطب النفسي. لكن لما كان الانتحار هو تعبيرا عن موقف الفرد من الآخرين ورد فعل على تأثير الآخرين وهيمنتهم وضغطهم وعنفهم الرمزي المتعدد التمظهرات، فإن عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إميل دوركايم درس ظاهرة الانتحار دراسة سوسيولوجية، بمعنى اهتم بالأسباب الاجتماعية المنتجة لظاهرة الانتحار وليس الدوافع النفسية الفردية. وتعتبر دراسة إميل دوركايم حول الانتحار من المراجع الأساسية التي لا يستطيع القفز عليها أي بحث سوسيولوجي لظاهرة الانتحار.
وكي نبسط نتائج عمل دوركايم، فإنه توصل إلى تحديد أنواع الانتحار، منها ما هو نتيجة اندماج قوي وتبعية مطلقة للآخر (الانتحار الإيثاري) الشيء الذي يجعل الشخص ينتحر بفقدان الآخر المتبوع له. وأيضاً انتحار ناتج من ضعف الاندماج الاجتماعي وقطيعة مع الآخر وتأثيرات الضمير الجمعي، وسمّاه الأناني. وكذلك الانتحار الخاضع لأسباب ما ورائية، مثل الشعور المتقدم بالقلق وقسوة الضوابط والكوابح والضغط النفسي الشديد، كما هو حال غالبية المنتحرين في اليابان. دون أن نغفل عن نوع الانتحار اللامعياري الذي أصبح أكثر حدوثاً في المجتمعات الحديثة؛ باعتبار ما تتميز به هذه المجتمعات من تعقيد يجعل السبب ونقيضه يمكن أن ينتجا الظاهرة نفسها.
فيما يخص ظاهرة الانتحار عربياً، فإن أول ما يمكن تسجيله أنه في السنوات الأخيرة عرفت هذه الظاهرة تزايداً كمياً، وورد في تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر قبل سنتين، أن السودان يتصدر الدول العربية ثم جيبوتي، والصومال، ، والمغرب، وقطر، واليمن، وتونس، والجزائر، والأردن، ومصر، وليبيا، والعراق… ولقد كان المحللون المختصون في علم النفس وعلم الاجتماع يميلون إلى تفسير ضعف ظاهرة الانتحار في المجتمعات العربية والإسلامية إلى قوة الوازع الديني وأهميته في غرس تنشئة قيمية لا تعترف بالانتحار، ولا تتجاوب مع مبرراته مهما كانت قوية وقاسية. فالانتحار يعني الخروج من الدين. كما أن الانتحار لا يحظى بمخيال إيجابي في الحضارة العربية بشكل عام؛ فهو رمز الضعف وليس دليل بطولة كما هو شأن بعض الثقافات التي تمجد مثلاً انتحار الزوجة وحرقها نفسها بعد فقدان الزوج.
ولعل من المفارقات، أن الانتحار في البلدان العربية عرف تزايداً غير مسبوق تاريخياً في الوقت الذي سجل فيه الإسلام السياسي عودة قوية، وظهرت فيه التنظيمات الأصولية، وتكاثرت فيه القنوات الدينية. وهنا نتساءل، هل أن العامل الديني الذي لطالما كان ضابطاً لظاهرة الانتحار قد تراجع دوره، أم أن هناك أسباباً أخرى تفسر لنا تزايد حالات الانتحار؟
ففي مصر، كما جاء في منبر «الشرق الأوسط» قبل أيام قليلة، انتحر عام 2015 نصف مليون مواطن، وفي تونس عرف الانتحار تزايداً بعد انتحار الشاب محمد البوعزيزي الذي أشعل الثورة التونسية. وانتقل الحديث اليوم إلى ظاهرة انتحار الأطفال التلاميذ (طبعاً نستعمل توصيف الظاهرة بحذر، حيث لم يرتق الانتحار في كل العالم العربي إلى مستوى الظاهرة بقدر ما هنالك تزايد في نسبة الانتحار).
أيضاً، الانتحار العربي يشمل فئة الشباب، وهو ذكوري أكثر مقارنة بعدد الإناث المنتحرات. ويمكن القول، إن الانتحار عرف نوعاً من التسييس في السنوات الأخيرة. فهو انتحار حامل لرسالة سياسية مفادها فشل النخب الحاكمة في إشباع التوقعات الاقتصادية للشباب. كما أن مرحلة الشباب تشهد ما يسمى ظاهرة المراهقة؛ لذلك اعتبر الباحثون أن انتحار الشباب هو إعلان عالي الصوت عن تدهور سن المراهقة.
بيت القصيد إذا جاز لنا أن نستنتج، أنه يمكن الإشارة أو الافتراض أن الإكراهات الاقتصادية وما تعرفه بعض البلدان من توترات وحروب (السودان واليمن…) باتت اليوم تتحكم في إنتاج ظاهرة الانتحار بلفت النظر عن الطرائق غير التقليدية للانتحار. ذلك إن الطرائق الجديدة تستبطن الرغبة في إحداث ضجيج وتوفير العناصر اللازمة كي تصل الرسالة السياسية.
كما لا يفوتنا أنه كما حصل تغير في طريقة الانتحار نسجل تغييراً ثانياً في أشكاله: هنا نضرب مثلاً ظاهرة الهجرة السرية وركوب البحر، وغرق آلاف الشباب قبل بلوغهم ما يعتقدون أنه الجنة الموعودة. فمثل هذه المغامرة هي انتحار مختلف ومقامرة بالروح غير مباشرة.
أخيراً أرى أن الإكراهات الاقتصادية باتت في بعض المجتمعات أقوى من الوازع الديني في الوقاية من الانتحار. وهي فكرة فرضية نعتقد أنها جديرة بالحفر والإثبات أو النفي من منطلق أن الموضوع هو الإنسان.

التعليقات