كتاب 11

03:38 مساءً EET

حادث مُريع بين السلطة الأبويّة والفردانيّة!

تُوصف المجتمعات الحديثة بكونها مركبة ومعقدة، الأمر الذي يجعل من فهم الظواهر والمشكلات مسألة بالغة الصعوبة. وحتى إذا تم هذا الفهم، فإنه يظل نسبياً، ويحتكم في التفسير إلى أسباب عدّة.
وتصبح هذه الصعوبة مضاعفة مرات ومرات عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات العربية، التي تجمع بين سجلات قيمية مختلفة، وأحياناً متنافرة. فالتحديث أمر قائم في المجتمعات العربية، مع تفاوت في الخطوات والمكتسبات. وفي الوقت نفسه، لا تزال هذه المجتمعات منغرسة ومتجذرة في تربة ثقافية تُولي الاعتبار لقيم مختلفة تماماً عن المنظومة القيمية الحداثية.
فمجتمعاتنا لا تزال أبوية بامتياز، وذكورية بامتياز، وشموليّة في مقاربتها للأشياء. ففكرة الشمولية لا تندثر بمجرد الإطاحة بالنظام الشمولي، والانخراط في الإصلاح والديمقراطية، والولاء لصناديق الاقتراع؛ ذلك أن الشمولية نمط ثقافي في التفكير والسلوك، ولا يندثر في سنوات، أو حتى في عقود، وتلك صعوبة كل ما هو ثقافي، حيث من الصعب اقتلاعه وكأنه لم يكن، ويحتاج إلى الزمن، إما كي يتغلغل أو كي يُردم.
المشكلة الموجودة اليوم في مجتمعاتنا، التي تطال العلاقات الاجتماعية في مستوى مؤسستي الأسرة والمدرسة تحديداً، هي ضعف التواصل مع الناشئة، أطفالاً وشباباً. ونعتقد أن هذه المشكلة كبيرة وخطيرة ومانعة للحلم بمستقبل أفضل في مجتمعاتنا، باعتبار أن توتر العلاقة، وضعف التواصل وسلبيته مع الناشئة التي تمثل عماد المستقبل، يعني آلياً أن هذا العماد غير متوازن، ويعيش في بيئة غير صحية، وأنه منشغل بإدارة التوترات والتصادمات أكثر بكثير من تنمية نقاط التقارب والتفاهم والانسجام.
فالأسرة العربيّة اليوم، رغم هيمنة شكل الأسرة النواة على الشكل القديم الذي كان سائداً، المسمى الأسرة الممتدة، فإنها ما زالت شمولية، وتحتكم إلى السلطة والعلاقات العمودية، أكثر منها العلاقات الأفقية، وهو الشيء نفسه الذي ينسحب على المدرسة بشكل عام. وإذا كانت الأسرة، من منطلق البعد الوجداني والعاطفي القوي، بصدد محاولة فهم الجيل الجديد، والتفاوض مع اختلافه عن الجيل السابق، قيماً وطريقة تفكير ونمط سلوك، فإن المدرسة ظلت جامدة وسلطوية وفوقية التعامل مع التلاميذ والطلبة.
وإذ نطرح هذه الإشكالية في هذه اللحظة بالذات، فلأننا في فترة عودة مدرسية وجامعية، إضافة إلى أهمية الفئة الشبابية التي نتحدث عنها، سواء بالنسبة إلى مجتمعاتنا أو إلى مستقبل العالم العربي والإسلامي ككل.
كما أن المدرسة هي مؤسسة أولية من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، والجميع يمر بها وجوباً، ووظيفتها دقيقة جداً. وفي مقابل هذه الأهمية، نلحظ أن المدرسة لم تتفاعل مع التغييرات الثقافية، وحافظت بتعنت شديد على طابعها الشمولي السلطوي، وهو ما جعلنا اليوم نجابه عدّة مشكلات، مثل العنف المدرسي، والعزوف عن الدراسة، وظاهرة الانقطاع المبكر عنها.
فالأطفال اليوم، وكذلك الشباب، هم إلى القيم الفردانية الحداثية أقرب منهم إلى الثقافة الشمولية التي تمثلها مؤسساتنا، مثل الأسرة والمدرسة. لذلك، فإن النتيجة هي تصادم حاد بين مؤسسات لا تزال شمولية وأبوية وبين جيل ينزع نحو الحرية، وإعلاء شأن الذات، ومركزية الفرد، والإيمان المطلق غير المشروط بحقوق الإنسان، وحقه الجارف غير المنقوص في الحياة.
أعتقد أنه عندما نفهم جوهر الصدام الحاصل اليوم بين المؤسستين المذكورتين وشبابنا سننتهي إلى استنتاج صادم بدوره، وهو أن العلاقة بين أهم مؤسستين للتنشئة الاجتماعية وشبابنا، القلب النابض للمجتمع وثروة المستقبل، هي علاقة نزاعية صراعية، ولا تقوم على مبدأ التعاون، كما يجب أن تكون.
وهنا نتساءل: أي فائدة من الحديث عن الحق في الحرية، والحق في النقد، وفي تدريس مادة حقوق الإنسان، وفي الإمضاء على الاتفاقيات الدولية التي تنتصر للحريات العامة والخاصة، والحال أن أقرب المؤسسات الاجتماعية إلى الفرد تمارس العقلية الشمولية، وتجعل مسار الفردانية والتحرر من سلطة المؤسسات عصيباً ومضنياً ومكلفاً جداً؟
الفرق بيننا وبين المجتمعات الأوروبية هو أنها تجاوزت هيمنة المؤسسات، وانتصرت للفرد، فتنامت منزلته ومكانته، وانتهت من الطور التاريخي الذي كان فيه سلوك الفرد ومواقفه ومشاعره نتاجاً لحتمية المؤسسات الاجتماعية. إننا ما زلنا نقارب الفرد بوصفه عوناً اجتماعياً، لا فاعلاً اجتماعياً، وهذا في حد ذاته لخبطة كبيرة ما فتئت تتسبب في حوادث تواصل بين الأسرة والمدرسة وشبابنا.
المطلوب هو الإنصات الجيد، والاعتراف الشجاع بأن هناك تغييراً ثقافياً هائلاً قد حصل في مجتمعاتنا. صحيح، نحن لسنا مجتمعات حديثة، ولكننا نحاول الحداثة، ونتعاطى معها حتى ولو كان ذلك في بعدها المادي، الذي سيفرز مع التراكم والوقت حداثة فكرية حقيقية أكثر تجذراً وعفوية من التي نلاحظها الآن. ويجب ألا ننسى أن تاريخ الحداثة نفسه بدأ مادياً، بمعنى أن الثورة الصناعية كانت سابقة لعصر الأنوار، ولحدث الثورة الفرنسية، بأكثر من قرنين، مما يدعم الصلة بين المادي والثقافي، بمعنى أن تعاطي شبابنا مع وسائل التكنولوجيا الحديثة، وانخراط مجتمعاتنا ككل في استهلاك منتجات الحداثة المادية، سينتج ثقافته أيضاً، ويخطئ من يظن أن لا علاقة بين المادي والثقافي.
الفكرة باختصار غير مخل: الفردانية حقيقة اجتماعية، وليست حدثاً طارئاً، فنحن في عصر ثقافة المواطنة، وحقوق الإنسان، التي تستوجب علاقة أفقية بين الفرد والمؤسسات الاجتماعية، علاقة تتعامل مع الفرد بوصفه فاعلاً اجتماعياً. وعملياً، نترجم عن هذه النقلة النوعية عندما ننصت للطفل وللشاب، ونحترم قدراته واختياراته، ونتحاور معه، لا أن نصدر له الأوامر. وتترجم المدرسة عن تغييرها أيضاً عندما يصبح التلميذ والطالب هما المركز، ويشاركان في العملية التربوية المعرفية، ولا يقتصر الفعل التربوي التعليمي على التلقين والخضوع لسلطة الأستاذ.
المطلوب التقليص من حوادث تصادم الشمولية والفردانية.

التعليقات