كتاب 11

05:31 مساءً EET

عاصمة بلا صحافة!

الإدمان أنواع عديدة جداً، منها ما يعدّه الناس مفيداً بدنياً ونفسياً كالرياضة بأنواعها، ومنها ما اتفقوا على ضرره صحياً وأخلاقياً وحرّمته الأديان السماوية كتعاطي المخدرات والكحول، وفي المسافة ما بين الاثنين يلتقي عباد الله ويتفرقون في عاداتهم الإدمانية.
وإذا كان الحرص على قراءة الصحف اليومية – كما يراه البعض – يتموضع في دائرة الإدمان غير المضرّ فإنني شخصياً أصنف نفسي تحت خانة المدمنين من قراء الصحف؛ إذ منذ مرحلة الدراسة الإعدادية وحتى يوم الناس هذا لا يكاد يمر يوم دون أن أقرأ صحيفة أو أكثر باستثناء الأيام التي أزور فيها مدينتي طرابلس عاصمة ليبيا، نظراً لتوقف الصحف بها عن الصدور منذ عام 2014، وتحديداً منذ ما صار يعرف بمعركة «فجر ليبيا» بقيادة التشكيلات الإسلامية المسلحة.
منذ تاريخ انتهاء تلك المعركة سيئة الصيت، التي كان من ضمن خسائرها المكلفة حرق مطار طرابلس العالمي، واستحواذ الإسلاميين على طرابلس العاصمة، وعلى الرغم من استمرار وجود مؤسسة للصحافة بمقر رسمي وبمدير عام بدرجة وزير، وبكادر كبير من الموظفين، فإن مدينة طرابلس عاصمة دولة ليبيا، التي يتجاوز عدد سكانها مليوني نسمة، ظلت محرومة من صدور الصحف، بل حسب بيانات منظمات حقوق الإنسان العالمية مثل «هيومن رايتس ووتش» و«منظمة العفو الدولية» (أمنستي) يُطارد فيها الصحافيون ويسجنون ويخطفون!!
ولعلي لا أخطئ إن قلت إن طرابلس الغرب هي العاصمة الوحيدة من كل عواصم دول العالم التي لا تصدر فيها صحف، رغم وجود مئات الصحافيين المقتدرين، ولا توجد فيها دور سينما، رغم وجود مؤسسة رسمية للسينما يطلق عليها «الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون الليبية»، وبعد أن تم تهديم بعض مما وجد سابقاً من دور للسينما وتحويل المتبقي إلى مخازن عامة ومتاجر، وأغلقت فيها المكتبات العامة واستولي على مقراتها، وأغرق المسرح في بحر النسيان.
ذكرني بذلك تقرير صحافي لفت انتباهي واهتمامي نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية في الأيام الماضية يتعلق بتطوع 250 شخصاً من سكان مدينة في جنوب شرقي إنجلترا تسمى «ساوث هامبتون»، بتكوين سلسلة بشرية لمساعدة مكتبة بالمدينة على توصيل بعض من محتوياتها من الكتب من مقرها القديم، إلى مقر آخر جديد، يبعد عن الأول مسافة تقرب من 150 متراً. ما يثير الإعجاب أكثر هو أن هذه الحملة أقيمت يوم أحد، مما يعني أن الأشخاص المتطوعين قرروا بمحض إراداتهم التنازل عن حقهم في يوم راحة أسبوعي، بغرض أداء خدمة من دون أجر، ولا دوافع لهم سوى رغبتهم في عدم إغلاق المكتبة لأبوابها، وذلك بمساعدتها على تجاوز مشكلتها المالية الناجمة عن عدم تمكنها من مواصلة دفع إيجار مقرها الحالي، وحاجتها إلى الانتقال لمقر جديد أرخص إيجاراً.
التقرير كان مرفوقاً بصورة لهؤلاء الأشخاص، وقد اصطفوا بجانب بعضهم مكونين سلسلة بشرية، وهم يتناقلون الكتب من واحد لآخر متضامنين مبدعين لوحة متميزة بألوان تسمو بروح إنسانية وحضارية رائعة وراقية.
التهميش المتعمد الذي تتعرض له الصحافة والصحافيون بشكل خاص، والثقافة والمثقفون عموماً في ليبيا في السنوات الأخيرة، ستكون له نتائج وخيمة على مستقبل الأجيال القادمة، في بلد عانى من الاستبداد والقمع طيلة أربعة عقود زمنية، ويمر حالياً بمرحلة تحوّل تاريخية سعياً إلى إرساء وتوطيد دعائم عقد اجتماعي جديد، يقوم على نبذ ثقافة الصوت الواحد والقائد الأوحد، وليس في الإمكان أبدع مما كان، وإحلالها بثقافة وقيم بديلة مؤسسة على مبدأ الوطن للجميع، وغرس وتجذير بذور ثقافة وقيم الحوار، وتبادل السلطة سلمياً عبر صناديق الانتخاب.
تحقيق هذا الهدف ليس سهلاً وقد يحتاج إلى زمن، ولن يتم من دون وجود إعلام قوي ومن دون وجود صحف وصحافيين مهنيين مقتدرين ومن دون وجود نوادٍ ومنابر ثقافية متعددة الأطياف في كل المدن الليبية.
ليبيا اختطفها المسلحون… اختطفوا سلطتها وصحافتها ومؤسساتها الثقافية، واختطفوا كل شيء جميل فيها، ونشروا الفوضى العارمة في أرجائها. لا نعرف متى سينتهي هذا الكابوس الجاثم فوق صدور الليبيين.

التعليقات