كتاب 11

03:23 مساءً EET

قف بإحترام .. فأنت في حضرة مصر

ما أسهل الحديث عن القامات العظيمة والأهرامات الشامخة لسهولة الاستدلال والاستشهاد على مقامها وتاريخها وإنتاجها الإنساني، وبذات الوقت، ما أصعب حصر ذلك التاريخ الشامخ لتلك القامات والأهرامات التي تعلو مرفوعة الرأس في كل مكان، لا يستطيع أحد المساس بها، فيظل كل من يحاول ذلك، مجرد قزم عابث.
كان هذا هو حالي وأنا أكتب مقالتي هذه عن مصر العربية، مصر الشامخة، مصر العظيمة، الحبيبة لكل قلب عربي أصيل، ولا أجامل إن قلت لكل إنسان من شتى أصقاع المعمورة.
كنت أسمع في طفولتي: (من يشرب من ماء النيل لابد وأن يعود إليه)، وكنت أتسائل: ما سر ذلك، وظل هذا التساؤل قائماً حتى كتابة مقالي هذا، ومن قبله قصيدتي التي نظمتها في مصر وأطلقت عليها (مصر الأمة) ولتلك التسمية سبب ومناسبة أتناولها في مقال لاحق إن شاء الله، تلك القصيدة التي كانت ضمن قصائدي الثمانية عشر التي قدمتها في أمسيتي الشعرية على مسرح دار الأوبرا المصرية، كأول شاعر خليجي يحيي أمسية شعرية بدار الأوبرا المصرية، وكانت برعاية وزارة الثقافة المصرية ودار الأوبرا المصرية ومحافظة القاهرة ومؤسسة نبراس السلام في فبراير من هذا العام 2018م.
شربت من ماء النيل، وعدت له عشرات وعشرات المرات، وفي كل مرة كنت أصل بها أرض الكنانة، يكون أول ما أقوم به، فتح نافذة العربة التي تقلني لمحل إقامتي لأتنفس هوائها، جمال رائحتها، ورونق عبير النيل المنتشر فيها، وحينما أعود إلى وطني السعودية، يكون ذات العمل هو آخر ما أقوم به. بل حدث ذات مرة أن كنت متوجهاً على متن إحدى رحلات شركة مصر للطيران القادمة من نيويورك إلى القاهرة (ترانزيت) والعودة إلى السعودية، وبعد وصولي مطار القاهرة طلبت من مدير المحطة جلب حقائبي وتعديل تاريخ الرحلة لثلاثة أيام تالية، وحينما وصلت إلى كاونتر الجوازات سألني الضابط: (من أين قدمت؟) فقلت: (من أمريكا)، فقال: (وهل زيارتك لمصر بغرض العمل؟)، فقلت له: (بل للإستجمام وراحة الأعصاب). وكانت مفاجأة له، حيث حدق النظر بي وقال لي عبارة لا أنساها: (الناس بتروح أمريكا لجل ما تروق دماغتها، وانت جي لمصر تروق!!)، فقلت له: (يعلم الله أن راحتي هي في القاهرة ومنطقة سيدنا الحسين والسيدة زينب ووسط البلد وضفاف النيل والقهاوي البلدي، حيث الناس الأصيلة، الباسمة على الرغم من ظروف بعضهم القاسية).
مصر، مهما تحدثت عنها فلن أستطيع أن أوفيها حقها من كافة جوانبها، فهل أستطيع أن أصف عظمتها وهي التي ذكرت في القرآن الكريم خمس مرات!! وهل أستطيع أن أصف جلالها وهي التي تغلبت على كل الصعاب التي تعرضت لها قديماً وحديثاً، ولنا في بعض الحوادث التي تعرضت لها واستطاعت أن تنهض بكل ثبات خير دليل، سواءً في تأميم القناة ونقل ملكيتها وإدارتها إلى الحكومة المصرية وجلاء الإنجليز عنها سنة 1956، أو في ثورة يوليو سنة1952، أو نكسة حرب سنة 1967، أو العدوان الثلاثي عليها سنة 1956، أو حادثة استشهاد الرئيس محمد أنور السادات يرحمه الله سنة 1981، أو في احتلال سيناء ثم تحريرها سنة 1982، أو في المؤامرة التي مرت بها سنة 2011 واقتحام السجون وانتشار القتلة والإرهابيين وأعضاء تنظيم الإخوان الإرهابي وحرق المقار الشرطية، والمباني الحكومية، ووصول القوات الأمريكية للقرب من شواطئها آنذاك للسيطرة عليها، أو في احتلالها وحكمها لعام كامل على يد تنظيم الإخوان الإرهابي،حتى تم تحريرها منهم سنة 2013، أو التآمر الدولي الذي حيك حولها سنة 2011 والذي قادته أمريكا وبريطانيا وعدد من الدول وتصدت له السعودية آنذاك بكل صلابة،ابتداءً بخطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يرحمه الله، والزيارات المكوكية لعميد الدبلوماسية العالمية الأمير سعود الفيصل يرحمه الله لدول العالم، أو الحرب على الإرهاب الذي عصف في بعض مدنها وفي سيناء وتآمر تنظيم الجماعات الإرهابية عليها، وغير ذلك الكثير والكثير. وبالمقابل لم تتزعزع مصر قط، بل خرجت من كل تلك المحن والمصائب الجسام أقوى مما كانت عليه، وها هي اليوم تشق طريقها بمشاريعها الجديدة وانفتاحها وتقدمها في كل الميادين.
إن استعراض جزء من تاريخ مصر العلمي والثقافي والأدبي في شتى المجالات ليعجز الكاتب والمحب عن حصره، فكفاها شرفاً أنها الدولة العربية الوحيدة التي حصل أبنائها على جائزة نوبل لأربع مرات، وكفاها شرفاً أنه ما من دولة عربية ولا غربية إلا وأرسلت مصر لها من أبنائها المعلمين والمعلمات، والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات، لتنهض تلك الدول متسارعة على يد المصريين والمصريات، ليس هذا فحسب، بل لكم كانت لمعوناتها عبر (التكية المصرية) في مكة المكرمة والمدينة المنورة -والعديد من المدن العربية- من فضل في رعاية شعب المدينتين المقدستين، وكسوة الكعبة المشرفة، وخدمة المسجد النبوي الشريف، في وقت كانت فيه قساوة الحياة تخيم على سكانهما. ولكم كان لقواتها المسلحة من فضل في دحر العدوان عن بلاد أشقائها العرب، ورد المعتدين والوقوف صفاً واحداً مع أشقائها، ولسان حالها يقول كما قالها السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، موجهاً حديثه لمن يفكر في الإعتداء على السعودية خاصة والخليج عامة: (مسافة السكة)، وصدق بما قال. بل ما كان من العامل والموظف المصري من فضل حين تغربوا عن أهلهم ووطنهم من أجل المساهمة في بناء وتنمية الدول الأخرى، حتى وإن قيل أن ذلك كان بمقابل مادي، فذلك لا يعني زوال فضل ذلك المصري الأصيل.
ما أصعب الحديث عن مصر حينما نرغب في حصر فضائلها، وما أسهل الحديث عن أصالتها وعراقتها ومقامها الرفيع بين دول العالم عامة، والعربية والإسلامية خاصة، حينما نرغب بالاستشهاد، كيف لا وهي التي كانت ولا تزال منارة للإسلام الوسطي، الداعية للتعايش السلمي الذي نراه بكل جلاء ووضوح بين المسلمين والمسيحيين في مصر، ودعوتها الدائمة لمحاربة التطرف والعنف.
إن اكتفيت في السرد فليس من أجل نضوب مصادر الفخر التي تفخر بها مصر العروبة، فحصر ذلك من أشد الصعوبات، ولكنه اكتفاء للتخفيف على القارئ، ولتذكير من يفكرون بالمساس بمصر، أو الإساءة لسمعتها، أن ذلك لا يزيد مصر إلا عزاً وشموخاً، ولا يزيد المعتدين عليها من المارقين إلا تقزماً وتحجيماً.
حفظ الله مصر العروبة، وحفظ بلاد الحرمين الشريفين، وإمارات العز وبحرين الشموخ، أربعة توائم تصدوا للإرهاب بكل عزيمة، وحفظ بقية أوطاننا العربية الشريفة والأصيلة من كل حاسد وناقم وباغض وبغيض، وعم بفضله السلم والسلام والأمان على ربوعنا.

التعليقات