كتاب 11

02:39 مساءً EET

إنصاف السّادات

من يطلع على تفاصيل حياة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات يشعر وكأنه أمام بطل روائي. فحياته مليئة بالتجارب والأحداث الخطيرة، ومركبة على نحو عجائبي بعض الشيء. فمع السادات لا يمكن أن تبني خطاباً خطياً في اتجاهه ومقولاته. فكل المواقف التي تناولت السادات بالإشادة أو بالتخوين قابلة للتنسيب والنقاش المطول البرهاني.
بعد غد الثلاثاء يوافق مئوية الموصوف بـ«بطل السلام والحرب» السادات، حيث ولد في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1918، وتم اغتياله في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1981. ورغم كل ما قيل من صواب ومن تشويه في حق الراحل أنور السادات إلا أنه يمثل شخصية مهمة جداً من شخصيات الجمهورية المصرية الحديثة، ورجلاً لا يمكن أن يطويه الصمت أو التهم الثقيلة.
ما لفت انتباهي وأنا أطلع على برنامج دار الأوبرا المصرية كي أحضر سهرة من سهراتها، أنه اليوم يلتئم احتفال فني كبير إحياء لمئوية الراحل السادات. طبعاً لفت انتباهي لأن الرجل سياسي ولم أتوقع أن تشكل مئويته مصدر اهتمام للقطاعات الثقافية، وهو في ظني علامة إيجابية جداً تعكس فهماً عميقاً وواسعاً للثقافة، باعتبار أن كل شيء في أوله ونهايته ثقافة من منطلق كونه حاملاً لرسالة أو فكرة أو رؤية. لذلك فقد نظرت بإعجاب لمبادرة دار الأوبرا، وأيضاً للندوة التي عقدها المجلس الأعلى للثقافة حول تجربة أنور السادات.
هذا أولاً. فماذا يمكن أن نقول عن السادات، وما هي أهم دروس تجربته السياسية، وإلى أي حد يمكن أن نستفيد منها في هذه اللحظة العربية والإسلامية الصعبة؟
قبل التوقف سريعاً عند هذه النقاط، من المهم أن نكمل توضيح ما بدأناه في وصفنا للسادات الذي بدا لنا أشبه ما يكون ببطل رواية تعتمد الأكشن والغرائبية.
لقد كانت حياة السادات متقلبة وثرية، وبين مد وجزر، وحياة وخطر الموت المتجدد. فاليوم عندما نقرأ سيرته ومواقفه ومبادراته، فمن الصعب أن نهضم حقه في الاعتراف له بشجاعته وجرأته وميله الجارف إلى حد التهور للمغامرة. فأن يصبح رئيساً لمصر بعد الراحل جمال عبد الناصر هذا في حد ذاته علامة جرأة وثقة بالنفس، خصوصاً أن الرجلين مختلفان، وبقدر ما تمرد عبد الناصر على الواقع وموازين القوى بقدر ما كان السادات منصتاً للواقع وممتثلاً لتعليماته عند الضرورة.
يمكن القول إن شخصية السادات كانت لا تظهر عبقرية الرجل ومهاراته خلافاً لتفاصيل حياته التي تؤكد ذلك؛ فهو صاحب تجربة متقلبة وغنية حيث تعرض للسجن بسبب تعاونه مع الألمان ضد الإنجليز، الأمر الذي أدى إلى اتهامه بالتجسس، ثم هرب من السجن واشتغل في مهن عدة تنكرية منها سائق وحمّال، وعمل في نقل الحجارة، واشتغل بشكل معلن طبعاً في الصحافة.
بعد ذلك انتمى إلى جمعية سرية لتحرير مصر، وشارك في محاولات اغتيال، وانتمى أيضاً لتنظيم «الضباط الأحرار»، ثم إلى «مجلس قيادة الثورة»، وصولاً إلى حكم مصر بعد رحيل جمال عبد الناصر. وبعد أشهر من توليه الرئاسة قاد ما سماه «ثورة التصحيح» ضد المناهضين له.
وكما نلاحظ، فالتهم ضده خطيرة وقدرته على التخفي لم تمنعه من العمل شيّالاً، مثلاً، وهو الذي تحمل له الأقدار منصب حكم مصر. أي أن سيرته ليست عادية بالمرة، والرجل أخفى أكثر مما أظهر.
إن التعرف على السياق التاريخي للستينات، الذي عرف نكسة 1967 وكيف تجرع العرب مرارة الهزيمة، ورغم ذلك تم رفض استقالة جمال عبد الناصر، ثم دور مصر المحوري في الصراع العربي الإسرائيلي… كل هذه التفاصيل الكبيرة الخطيرة تجعلنا بعد نحو نصف القرن ننظر إلى ما قام به السادات في السبعينات بعين أخرى ليست تلك العين التي رأت فيه خائناً للعروبة ولفلسطين. فالرجل كان حكيماً ومؤمناً كبيراً بالسلام في سياق كان فيه الحديث عن السلام مع إسرائيل ضرباً من الكفر والخيانة.
في الحقيقة المعروف عن الخيانة أنها تتم في الزوايا وفي سرية، ولكن الرجل تجشم مشقة مواجهة الرفض الراديكالي للسلام مع إسرائيل وزار القدس في نوفمبر (تشرين الثاني) 1977، ثم وقع اتفاقية «كامب ديفيد» في 1978.
وإذا قبلنا بأطروحة الخيانة، فأبسط سؤال يتبادر للذهن اليوم: ماذا قبض السادات مقابل هذه الخيانة، إذا ما صح كونها خيانة؟ ثم هل يمكن للخائن أن يواجه غضب العرب الذين قطعوا العلاقات مع مصر، وأيضاً التململ من مبادرته للسلام في زمن الحرب ولا شيء غير الحرب ضد إسرائيل؟
إذن أغلب الظن أن الرجل كان شجاعاً على طريقته وحكيماً بطريقته وواقعياً في عز الحلم العربي والنكسات. كما أنه اكتسب مشروعية سياسية من مكسب عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف عام 1973، وهنا نستحضر تعليقاً لهنري كيسنجر قال فيه إن السادات كان رجلاً عظيماً أعاد شرف بلاده في حرب أكتوبر 1973.
أما دروس السادات، فقد أثبت الواقع الراهن صحتها أكثر فأكثر، حيث آمن أن استقلال أي بلد هو في الحقيقة الاستقلال الاقتصادي، وليس الشعارات السياسية. كما انتقد العاجزين عن تغيير نسيج أفكارهم، مبيناً أنهم لن يكونوا قادرين على تغيير الواقع ولن ينجحوا.
إن تجربة السادات، وإن لم تكن مثالية، كما أرادها خصومه ومنتقدوه، إلا أنها تجربة جديرة بالتقدير والنقاش والشجار معها، إن لزم الأمر، ولكن بعيداً عن خطاب التخوين. فالرجل صاحب رؤية آمن بها ورأى فيها مصلحة العالم العربي، فتحمل ما تحمل، وهو يعلم جيداً ماذا تعني زيارة القدس عام 1977.
إنه شيء من الإنصاف الذي يستحقه السادات.

التعليقات