مصر الكبرى

07:27 صباحًا EET

الحرية بين المفهوم الفرنسي والصيغة الأميركية

احتفلت فرنسا أمس السبت بيوم "الباستيل" الذي تحررت فيه من الحكم الملكي وتخلصت من سنوات مديدة من الاستبداد، وعلى غرار هذه المناسبة السعيدة بالنسبة للفرنسيين يخلد الأميركيون على الجانب الآخر من الأطلسي يوم الاستقلال وقيام الجمهورية بقيمها المعروفة والتي على رأسها الحرية، لكن ورغم مظاهر الاحتفالات التي تطغى على جانبي الأطلسي والاستعراضات المحتفية بقيمة الحرية ودورها في إطلاق الإبداع وتحرير الإنسان، تبقى الاختلافات كبيرة بين الصيغة الفرنسية للحرية ونظيرتها الأميركية، وربما لا يتشابه الطرفان سوى في ألوان أعلامهما التي يتداخل فيها الأحمر والأزرق والأبيض. ورغم الاختلافات الثقافية المستحكمة بين الفرنسيين والأميركيين في العديد من الأمور سواء تعلق بالموسيقى، أو الاستخدامات المختلفة والمتنوعة للأجهزة والمواد الغذائية، يظل الاختلاف الأكبر من كل ذلك في مفهوم الحرية، فالمغني الفرنسي المشهور، جوني "هاليداي"، الذي ما زال يحشد آلاف الجماهير في حفلاته التي تنظم في ملاعب كرة القدم، يظل غريباً في الولايات المتحدة، دون أن يمنعه ذلك من القدوم إلى أميركا لإحياء حفل قريب تستضيفه نيويورك، ومع أن "هاليداي" كان يسعى قبل نصف قرن من الزمن عندما انطلق مشواره الفني لمواجهة شعبية "إيلفيس بريسلي" الطاغية في أميركا وأنحاء أخرى من العالم، ما زال إلى غاية اليوم لم يتجاوز ذلك الطموح الذي لم يحظ به قط خارج فرنسا ليظل حبيس ثقافتها الخاصة ولغتها الجميلة.

لكن ماذا عن مفهوم الحرية التي يعلي من شأنه الشعبان معاً، ويجعلانه قيمة كبرى تتضمن في الدساتير؟ الحقيقة أن ما يفهمه الأميركيون على أنه حرية لا يشبه كثيراً ما ينظرون إليه في فرنسا على أنه تسلط للضرائب وتدخل الدولة في الاقتصاد والمجال الاجتماعي لتوفير الرعاية الصحية وإعانات البطالة وغيرها من المساعدات التي يغرق فيها المجتمع الفرنسي ولا يستسيغها الأميركيون، بل إن العديد من المراقبين للشأن الفرنسي من الأميركيين العاديين يتساءلون لمَ لا ترجع فرنسا إلى الوراء وتعيد الملكية إذا كانت الدولة بهذه الدرجة من التدخل في تفاصيل حياة المواطنين؟ لا سيما وأن الثوار الفرنسيين، وعلى غرار المستوطنين الأميركيين الأوائل في شمال أميركا، تمردوا ضد الحكم الملكي الجائر والاستبداد الذي يحبس على الناس أنفاسهم، وبالنسبة للأميركيين القارئين للتاريخ كان تدمير سجن "الباستيل" وتسويته أرضاً دليلاً واضحاً على رغبة الفرنسيين في الانعتاق والتحرر وإعلان لقيمة الحرية كما يفهمها الأميركيون باعتبارهما تحرراً من الحكم العشوائي للطبقات النبيلة، والانعتاق من المؤسسات التي تضيق على الناس أرزاقهم، والتخلص من الامتيازات الموروثة دون وجه حق.
وباختصار يعتقد الأميركيون أن زملاءهم الفرنسيين في الحرية تخلصوا بتدميرهم لسجن "الباستيل" من كل تلك الأثقال، لكن ما لا يعرفه الأميركيون أن الفرنسيين يريدون أيضاً التحرر من الفقر والعوز المادي ومن الحاجة والمرض.
فخلال الثورة الفرنسية ظهر مفهوم إيجابي للحرية يخالف نظيره السلبي لدى الأميركيين، هذا المفهوم عبر عنه بوضوح "جون جاك روسو" القائم على مبدأ المصلحة العامة، فبخضوع الناس للإرادة العامة يكون الأفراد قد جمعوا في آن واحد بين مصالحهم الشخصية والمصلحة العامة للمجتمع التي تتشابك لتصبح واحدة لا تضارب فيها، وفقط بهذه الطريقة يصبح الرجال والنساء قادرين على تحقيق حريتهم بشكل كامل ويغدو الفرنسيون أحراراً أيضاً سواء بالعمل عند الآخرين، أو الالتزام بالمصلحة العليا، أو بالتضحية برغباتهم الخاصة لتحقيق ما هو أسمى وأفضل.
ومن جانبهم ينتقد الأميركيون هذه النظرة الإيجابية للحرية التي يتبناها الفرنسيون لأنها تثير حكم الغوغاء وتعلي من شأن العامة كما شهدته فرنسا عقب الثورة في عهد "روبسبير" الذي أطلق عهد الإرهاب، لكن دعونا نترك أمور التاريخ للمؤرخين القادرين على التمييز بين الظروف القاهرة التي دفعت بالأمور في اتجاه معين، والأخطاء الأيديولوجية التي حركت التاريخ، لأن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى التوتر الموجود في أميركا بين الحرية بمفهوميها الإيجابي والسلبي على حد سواء، فبالرجوع إلى المبادئ المؤسسة للجمهورية الأميركية نجد مبدأ السعي لتحقيق السعادة الذي يحمل في طياته مفهوماً إيجابياً للحرية باعتبار أن الدستور الأميركي يعلي من شأن النفع العام، وكما يشير "أليكس توكفيل" في تعليقه على الديمقراطية الأميركية "تملك الولايات المتحدة تصوراً أشمل عن واجبات المجتمع تجاه الأفراد أكثر مما أعطى المشرعون الأوروبيون لمواطنيهم من حقوق"، لكن اليوم يبدو أن ما يسيطر على مفهوم الحرية في الولايات المتحدة هو المعنى السلبي فقط، بحيث تتعالى الأصوات الزاعقة داعية إلى التحرر من الضرائب والنظام الصحي وكل أوجه الدولة الفيدرالية، متناسين وجود مفهوم الحرية من أجل شيء ما، فهل هي الحرية التي تجمع بين الانعتاق من والالتزام بأمر ما هو ما يفسر أن الفرنسيين هم أكثر الشعوب فردانية ومع ذلك يظلون ملتزمين بدولة تضمن الحياة الكريمة لجميع مواطنيها؟
وهل يمكن القول إن الوثيقة المؤسسة في أميركا وهي إعلان الاستقلال تلخص مفهومنا للحرية باعتبارها استقلالاً وكفى؟ مقارنة بالوثيقة الفرنسية التي تسمى إعلان حقوق الإنسان والمواطنين التي لا تكتفي بالانعتاق من كل شيء، بل تحدد الحقوق والواجبات؟ مهما يكن الأمر لا بد ونحن نحتفل بالعيد الوطني في الولايات المتحدة إطلاق نقاش عام حول مفهومنا للحرية مقارنته بصيغ عالمية أخرى، لا سيما تلك القادمة من فرنسا.

التعليقات