تحقيقات

02:10 مساءً EET

حكاية رجل الأعمال السري الذي استخدمه اردوغان للتقارب مع امريكا وتفاصيل دوره المشبوه في سوريا وليبيا

وصل اليخت لونا – ثاني أكبر يخوت العالم وأكثرها فخامة ورفاهية – إلى موقف اليخوت في ميامي جنوب فلوريدا صباح يوم 22 يناير 2017 وعلى متنه صاحبه وقتها رجل الأعمال الأذربيجاني- الروسي فرخاد أخمادوف الذي جاء إلى الولايات المتحدة بعد يومين فقط من تولي الإدارة الأمريكية الجديدة عازما على تنفيذ المهمة التي كلفه بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي المهمة التي سيكون لها تأثير مدمر على كثير من شعوب الشرق الأوسط فيما بعد.
وهنا نأخذ في الاعتبار أن أخمادوف ليس رجل أعمال عادي بل هو واحد من أعضاء نادي الأوليغاركية بمعناها الواسع حول العالم، ويعتبر واحدا من مجموعة منتقاه من الأوليغاركيين تربطه علاقة خاصة جدا بأردوغان، ما تكشف منها مؤخرا لا يمثل سوى قمة جبل الجليد وما خفي كان أعظم.
والأوليغاركية مصطلح يعني سيطرة مجموعة صغيرة من الأثرياء على مقدرات بلد من خلال الفساد وجماعات الضغط والتحكم في الاقتصاد والسياسة لتوسيع مناطق نفوذهم وزيادة ثرواتهم على حساب المواطنين ومصالحهم، ويعتبر المحللين السياسيين أن الأوليغاركية أحد مفردات الفاشية أو الحكم الديكتاتوري القمعي.
فما الذي أتى بالأولغاركي أخمادوف ربيب أردوغان وبوتين إلى الولايات المتحدة في ذلك اليوم بالتحديد؟ ولماذا جاء على متن اليخت الذي ظل راسيا في ميامي لعدة أشهر؟ الإجابة جاءت في تقرير استقصائي طويل بعنوان “الأوليغاركس ووترجيت”، نشره موقع Courthousenews وكشف بعضا من خيوط قصة الاتفاق بين تركيا والذي مثلها في ذلك الاجتماع الذي عقد يوم 19 يناير/ كانون الثاني 2017 – أي قبل يوم واحد من حفل تنصيب الرئيس الجديد وثلاثة أيام من وصول أخمادوف لأمريكا – وزير الخارجية شاووش أوغلو وبين برايان بالارد الذي كان وقتها واحدا من المسؤولين في الإدارة الجديدة.
وكان حاضرا في ذلك الاجتماع أيضا الرجلين الذين رتبا له من الأصل وهما ليف بارناس والثاني موباريز مانسيموف قطب من أقطاب الشحن تركي-أذربيجاني ويقبع الآن في سجون أردوغان بتهمة الإرهاب، بعد أن انقلب عليه الرئيس التركي واتهمه بالتواصل مع فتح الله غولن.
ذلك الاجتماع الذي لم يتم الكشف عنه إلا في سبتمبر/ أيلول الماضي من خلال ذلك التحقيق الاستقصائي كان هو حجر الزاوية في بناء تلك العلاقة القوية بين أردوغان والإدارة الأمريكية الجديدة والتي يعتبرها البعض أحد أنجح حملات الضغط من جانب حكومة أجنبية على البيت الأبيض، بينما تداعيات تلك العلاقة على دول كسوريا وليبيا ومصر والسعودية والإمارات، بل وباقي الشعوب العربية ومصالح شعوبها تحتاج لمؤلفات لحصرها.
ويركز التقرير على الوساطة التي قام بها فرخاد أخمادوف لصالح أردوغان لدى الإدارة الأمريكية، وكيف أدى ذلك إلى إطلاق يد أردوغان في المنطقة، حيث يريد تنصيب نفسه خلفية للمسلمين بالضد من المصالح السعودية والإماراتية والمصرية. ففي سوريا تدخل في مؤخرا شمال سوريا وهجر عشرات الآلاف، وفي ليبيا يقوم الجيش التركي بتقويض المصالح دول مسلمة مثل مصر والإمارات هناك، وفي البحر المتوسط حيث يريد فرض إرادته ضد مصر واليونان.
وقد نتج عن هذا الاجتماع – وما تلاه من لقاءات أخرى شارك فيها ورتب لها أخمادوف من خلال طائرته الخاصة ويخته الفاره – اتفاقين كل منهما قيمته عدة ملايين من الدولارات أحدها كان لصالح الزعيم الذي يصور نفسه خليفة للمسلمين ومتحدثا باسمهم حول العالم، وهو ما مثل لبارناس دخلا بملايين الدولارات في المقابل.
ولولا موافقة بارناس نفسه على إجراء مقابلات حصرية لمدة زادت عن ساعة ونصف قدم خلالها مستندات حصرية وصور وتذاكر طيران ومقاطع فيديو – إضافة إلى معلومات أخرى لإكمال فصول القصة قدر المستطاع – لما ظهرت للعلن تلك الشبكة الدولية من رجال الأعمال والأوليغاركس – معظمهم ينتمون لجمهوريات سوفييتية سابقة أبرزها أذربيجان – وغالبيتهم الآن إما في السجون أو يواجهون تهما بالإرهاب وغسيل الأموال.
وقد أسهم في عقود الضغط لصالح أردوغان وتركيا بارناس ومانسيموف، إضافة إلى فارخاد أخمدوف الذي تصنفه وزارة الخزانة الأمريكية على أنه “أوليغاركي روسي له صلات وثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين”، وكشف بارناس عن تباهي مانسيموف بعلاقته الشخصية القوية مع أردوغان وكيف أنه قدم هدية لعائلة الرئيس التركي عبارة عن ناقلة نفط سعرها 25 مليون دولار، وكيف أن أردوغان وبعض جماعته يستخدمون الطائرات الخاصة التي يمتلكها مانسيموف في أسفارهم أحيانا.
وتظل تفاصيل الأشهر التي قضاها أخمادوف في أمريكا غامضة في معظمها، تظهر فقط ملامح لها من خلال القليل الذي كشف عنه بارناس، فأخمادوف – شأنه في ذلك شأن مانسيموف – أوليغاركي من الطراز الأول ويتفاخر بقدرته على المساعدة في حل النزاعات الدولية، ونسب الفضل لنفسه في التدخل بين روسيا وتركيا في مرتين على الأقل، وفي مقابلة مع وكالة سبوتنيك الروسية عام 2016 وصف شاووش أوغلو وزير خارجية تركيا أخمادوف بأنه وسيط دبلوماسي قيم “يعمل بصورة لصيقة مع بوتين ويعرف بوتين جيدا”.
وبعد وصوله إلى فلوريدا، قام أخمادوف بدوره في تسويق أردوغان لدى الإدارة الأمريكية الجديدة، وخلال تلك الفترة انضم بارناس لأخمادوف على متن اليخت لونا بعد أن كلفه مانسيموف “بتسلية الأوليغاركي أخمادوف”، ويسترجع بارناس بعضا من تفاصيل تلك التسلية ضاحكا: “لم يكن وقتا سيئا طبعا. فاليخت يديره طاقم من 70 شخصا وأربع طهاة وكل ما يمكن تخيله من أنواع التسلية موجود”.
أخمادوف يستضيف بارناس على متن اليخت الذي يحمل كل “أنواع التسلية”، فما هي التسلية التي قدمها بارناس نفسه لأخمادوف إذن؟
كشف بارناس عن رغبة أخمادوف وقتها في بدء علاقة جديدة مع بالارد، ثم قدم بالارد وبارناس أخمادوف إلى ستيف وين الملياردير صاحب كازينوهات القمار وأحد أبرز المساهمين في الحزب الجمهوري، ومن هنا انطلق أخمادوف لتنفيذ المهمة التي وصل إلى أمريكا من أجلها لصالح أردوغان والتفاصيل تظل متروكة لخيال القارئ بالطبع، فلم يقدم بانراس هنا سوى صورة من داخل كازينو القمار يتوسط فيها أخمادوف بارناس ووين.
كيف استفاد أردوعان وأخمادوف من تلك العلاقة؟
نظرة سريعة على ما قام به أردوغان في الشرق ألوسط منذ توقيع تلك الاتفاقيات للتأثير على الإدارة الأمريكية تجيب باستفاضة عن هذا السؤال: ففي سوريا سحب ترامب قواته تاركا الأكراد الذي كانوا حجر الزاوية في محاربة تنظيم داعش وهزيمته في مواجهة قوات تركيا في شمال سوريا التي تحتلها تركيا بحجة حماية حدودها، رغم التقارير المتعددة عن سيطرة أسرة أردوغان على حركة النفط المهرب والبضائع عبر الحدود.
وفي ليبيا أصبحت البلاد مهددة بالتقسيم ويعاني غربها من الاحتلال التركي تحت زعم دعم حكومة الوفاق بينما خيرات البلاد أصبحت حكرا على أردوغان الذي يواصل دعم الجماعات المتطرفة واستخدامها سلاحا لزعزعة استقرار دول مثل مصر والسعودية والإمارات وتونس، كل هذا تحت ذريعة الدفاع عن المسلمين وحقوقهم وخيرات بلادهم التي يبدو أن أردوغان يعتبرها ملكية خاصة له.
أما أخمادوف فقد استفاد من أوليغاركيته وعلاقته مع أردوغان وبوتين أيضا عندما احتجاها لإخفاء ثروته بعد أن حكمت المحكمة في بريطانيا لصالح طليقته تاتيانا أخمادوف بنصف تلك الثروة فيما عرف بطلاق القرن، وكشفت تقارير إعلامية بريطانية مؤخرا عن ألاعيب بنوك عالمية مثل HSBC البريطاني و UBS السويسري لمساعدة أخمادوف على إخفاء ثروته وأصوله لحرمان طليقته من حقها الذي حكمت لها به المحكمة.
وكشفت شهادات أثناء المحاكمة عن الأساليب التي تتبعها تلك البنوك لمساعدة أخمادوف على إخفاء ثروته بعيدا عن سلطات الضرائب منذ سنوات طويلة وهو ما جعل إخفاء تلك الثروة عن مسؤولي إنفاذ القانون لصالح تاتيانا بعد حكم المحكمة أمرا معتادا، لكن الأمور لا تزال مفتوحة وشيئا فشيئا تظهر خيوط أخرى عن تلك الشبكة السرية التي تضم رؤساء دول وأوليغاركيين ومدراء بنوك وشركات ومحامين تخصصوا على مر السنين في تكديس الثروات الطائلة وإخفائها عن سلطات الضرائب.
وقبل أيام رفضت محكمة الاستئناف في دبي دعوى رفعها أخمادوف مطالبا طليقته بتعويض قدره 115 مليون دولار عن أضرار زعم أنها لحقت به بسبب احتجاز اليخت لونا في ميناء راشد منذ حكمت المحكمة في لندن بأحقية تاتيانا في ملكية اليخت قبل نحو عامين، زاعما في دعوان أن مبلغ التعويض عن الأضرار الذي يطالب به يساوي قيمة تأجير اليخت عن فترة احتجازه.
فعلى الرغم من حصول مطلقته على حق ملكية اليخت، تقدم أخمادوف إلى المحكمة الشرعية في دبي – كرجل مسلم – مطالبا إياها بالحكم له بملكية اليخت وهو ما حصل عليه بالفعل – لكن في ظل استمرار النزاع القضائي في محاكم بريطانيا ومحاكم دبي، لا يزال اليخت محتجزا في ميناء راشد بدبي، وبحسب الدفاع عن تاتيانا، فإن دعوى التعويض التي رفعها أخمادوف وتم رفضها بحكم نهائي بات من محكمة الاستئناف قبل أيام قد كشفت عن تناقض مزاعم أخمادوف.
فأمام المحكمة الشرعية زعم أن اليخت ملكية خاصة ولا يتم توظيفه لأي أغراض تجارية حتى يحصل على حكم من المحكمة الشرعية بأنه غير خاضع لتقسيم الثروة، أما أمام محكمة الاستئناف فقد طالب بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به جراء حجز اليخت مما حرمه من 115 مليون دولار قيمة تأجيره في فترة الحجز.
ومع استمرار التحقيقات في الولايات المتحدة بشأن قضية جماعات الضغط وفي القلب منها أخمادوف وأردوغان، واستمرار قضية طلاق القرن وملاحقة أصول أخمادوف المخفية، يظل الباب مفتوحا على مصراعيه لكشف المزيد عن تلك القصة الأشبه بروايات جيمس بوند.

التعليقات