كتاب 11

11:26 صباحًا EET

أمريكا إلى أين؟

في العام 1787 انشغل الرأي العام الأمريكي بإحدى أهم معاركه الفكرية التي كانت تدور حول مفهوم الفدرالية المقترحة والدستور الجديد آنذاك. وتصدر المشهد أهم المفكرين الأمريكان والذين تم تسميتهم بعد ذلك بالآباء المؤسسين من أمثال الكسندر هاملتون وجون جاي وكذلك جايمس ماديسون عبر نشرهم لسلسلة مقالات عددها 85 مقالة جمعت في ما بعد تحت مسمى «الأوراق الفدرالية The Federalist Papers» كانوا من خلالها ينادون بتوحيد كل الولايات تحت حكومة فدرالية واحدة مع احتفاظ كل ولاية باستقلاليتها الإدارية.

مقابل هذا الطرح كان هناك معارضون لهذه الفكرة عرفوا فيما بعد بـ«المناهضين للفدرالية anti-federalist» ومن أهم ما استندوا عليه في حملاتهم المعارضة هو قلقهم من أن تلغي الحكومة الفدرالية الولايات وبالتالي تذوب كل هذه الكيانات داخل كيان موحد كبير بالذات أن الدستور الذي كان يروج له ذلك الوقت لم يتضمن أي توضيحات لمصير حقوق الأفراد من الناحية التنظيمية والحقوقية ولا القانونية. لكن الفريق الآخر والمؤيد للفدرالية كرر أن توضيح حقوق الأفراد سيكون عبر إضافة على الدستور في حال إقراره وتشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما تم بالفعل بعد أن تمكن الفريق المؤيد للفدرالية من الانتصار في المعركة الفكرية وإقناع غالبية المصوتين بالدستور الجديد وتبني نظام الفدرالية الموحدة، حيث تمت إضافة أول عشرة تعديلات على الدستور تضمنت ضمانات عديدة مثل حرية التعبير والنشر او الصحافة والحقوق الفردية وغيرها عرفت فيما بعد بـ«قانون الحقوق».

أما اليوم فمن يقود المعركة الفكرية في أمريكا؟ من يفسر ومن يضمن تبني تفسير الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي؟

للأسف انقسم الإعلام الأمريكي ومعه العديد من المؤسسات الإعلامية العالمية لتبني وجهات نظر بعيدة كل البعد عن المهنية والمصداقية وناهيك عن الحيادية. وأصبحت المراكز الفكرية والعديد من الجامعات وحتى المرموقة منها تتبنى طرحًا إيدلوجيًا ينفي الآخر ولا يحترم الاختلاف بل أصبح كل طرف يمارس أبشع أشكال «التنمر» العلني ضد من يختلف معه، وكل ذلك كان يمارس بعيدًا عن أفكار الآباء المؤسسين ومقاصد الدستور الأمريكي الرائع.

والأخطر من ذلك هو تسيد وشبه احتكار عدد محدود جدًا من الشركات الكبرى في مجال التكنولوجيا أو ما يعرف باسم big tech companies، فشركات مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام وغوغل يسيطرون على عالم الإعلانات والنشر وعلى عقول مئات الملايين من البشر. تمتلك هذه الشركات القدرة على التلاعب بالخوارزميات وتحديد ما نستطيع الحصول عليه من معلومات وما يحجبونه عن العالم بناء على مفاهيمهم وقناعاتهم وما يريدوننا أن نشاهد وكيف يجب أن نفكر، وهذا أمر غاية في الخطورة ولم نحصد بعد نتائجه.

لذلك نشاهد اليوم منظمات ودولاً كبرى مثل الاتحاد الأوروبي وكذلك الكونغرس الأمريكي يتحركون لتحجيم دور هذه الشركات عبر قوانين مثل محاربة الاحتكار، ولكن مازال الطريق طويلاً وغير يسير للتقليل من دورهم وتأثيرهم إلى أن نصل لحلول ممكن أن تعالج هذه الإشكالية إذ سيكون العالم في وضع صعب لأنه يتعامل مع نتائج سياساتهم وتصرفاتهم غير المسؤولة.

فبين المعركة الفكرية عام 1787 والمعركة الحالية في 2020 تراجع كبير في مستوى الأفكار وانفلات كبير على مستوى الأخلاق والضوابط والإمكانات. وما يؤسف له حقًا أن العالم كله أصبح ساحة واحدة يتضرر وتدفع شعوب ودول أثمانًا باهظة لمعارك فكرية لا ناقة لها فيها ولا جمل بل هي بعيدة عنها كل البعد، جغرافيًا واجتماعيًا وفكريًا. ولكننا على أمل أن تكون الزوبعة الأخيرة هي ما ستقود إلى الانتباه لخطورة الوضع وإيجاد الضوابط والحلول التي تكبح جماح هذا الانفلات والهيمنة على مصائر البشر.

التعليقات