كتاب 11

10:28 صباحًا EET

شكراً إيلاف

“كل الدراسات والمؤشرات تؤكد أن عالم الإنترنت شكل وسيشكل اتساعاً لا حدود له في تغيير الصيغة الإعلامية وتحرير الفكر الإنساني، وهذا ما رأينا بشائره الآن، مما يؤكد الحاجة إلى عمل إعلامي مميز”.

قد تبدو هذه العبارة أعلاه وكأنها قيلت مطلع هذا العام، أو ربما العام الماضي، أو قد نتخيل كأنها قيلت خلال السنوات الخمس الماضية كأبعد تقدير، ولكن في الحقيقة ما زال كثيرون يقولون بما يشبهها كل يوم، وسيستمرون في قول ذلك على مدى السنوات المنظورة القادمة، إذ ما زال عالم الانترنت يشكل اتساعا لا حدود له في تحرير الفكر الإنساني، وهذا ما رأينا بشائره البارحة، واليوم، وسنراها غداً أيضاً.
وما زلنا نقول “بشائر” لأن الصورة الواضحة الجلية لعالم الإنترنت لم تتوضح بعد.

على أية حال، قيلت هذه العبارة التي أوردتها في البداية منذ 20 سنة تقريباً، وتحديداً في 21/5/2000، أما صاحبها فهو أحد أعمدة الإعلام العربي المعاصر، وصاحب الباع الطويل في مهنة المتاعب والمشقات، وفارس من فرسان بلاط “صاحبة الجلالة” كما يروق للبعض تسميتها، إنه الأستاذ عثمان العمير رئيس تحرير جريدة إيلاف الإلكترونية ذائعة الصيت، وذات السبق العربي باعتبارها أول صحيفة يومية إلكترونية عربية.

ساهمت إيلاف ومنذ صدورها في تشكيل جزء مهم من الوعي العربي المعاصر مطلع الألفية الثالثة، وما زالت تمثل لدى الأجيال المتعاقبة مصدراً مهما للمعرفة والثقافة والخبر، ومنبراً رحباً لاستقطاب الآراء ووجهات النظر على اختلاف مشاربها، كما أن طيف موضوعاتها واهتماماتها الواسع جذب إليها القراء والمهتمين من كافة الشرائح والفئات، حتى لقد صار اسمها علامة فارقة في المجال الإعلامي المعروف بصعوبة الحفاظ على التميّز والديمومة فيه، إذ من المعروف أن المضي في الحقل الإعلامي شبيه كثيراً بالسير في حقلٍ من الألغام، وأن الحفاظ على الصدارة فيه يتطلب دائماً السير على حافة الهاوية، أو بمعنى آخر: الحفاظ على التوازن فوق تلك الشعرة الرفيعة من المخاطرة، والتي تفصل بين الأمان الساذج والسلبي من جهة، أو التهور وتدمير كل شيء من جهة أخرى.

كنت ومنذ بدايات اهتمامي بالشان الفكري والسياسي من متابعي إيلاف، وما زلت كذلك بطبيعة الحال، وقد مثلت لديّ مصدراً عالي الثقة على طول خطّها المهني (أي دائماً) واتساعه (أي في المجالات كافة). ثم لمّا تحولت الاهتمامات الفكرية والسياسية لديّ من مجرد المتابعة والمراقبة إلى الكتابة والمشاركة، فكانت “إيلاف” أول منبر بدأت من خلاله أُطل على القراء في فضاءات أثيرها السبراني.

واليوم.. وبعد مضي قرابة عام منذ أول مقال نشرته في إيلاف، وبعد أن بلغ عدد المقالات المنشورة لي أكثر من ستين مقالاً، أدركت وبشكل جليّ روح الدافعية التي يمكن أن يسهم بها المنبر الإعلامي المتميز في تحفيز الكاتب على الاهتمام والمتابعة، فكيف عندما يكون هذا المنبر كإيلاف؟ وهو الذي حرّض عندي تناول موضوعات شتى تنوعت بين السياسة بعلاقاتها الدولية وتأثيرها على أزمات منطقتنا العربية، وموضوعات أخرى اختصت بالثقافة الإسلامية ونقد الخطاب الديني والدعوة لتجديده، بالإضافة إلى بعض الرؤى والتصورات حول مشكلات شبابنا العربي وحلولها، وكتابات أخرى متنوعة في المجال التقني والذكاء الصنعي، أو حول الثقافة ومشكلاتها وهمومها، وزيادة على ذلك كله كان لأزمة كورونا نصيب من المقالات، كيف لا وهي الأزمة التي طغت تأثيراتها السياسية والاقتصادية والصحية والتعليمية على العالم كله، وغيّرت حياة الجميع في وقت قياسي وبشكل غير متوقع!

من ناحية أخرى.. ومن واجب الإشادة بما تتحلى به إدارة إيلاف من رحابة صدر وتقبل لجميع الآراء، ورغبة دائبة في تحريك المياه الساكنة للأفكار والمطارحات، ونقاش الموضوعات الجدلية والشائكة، فقد كانت هذه الصحيفة قناة وصل مهمة بين كتابها ومتابعيها، وكان لي نصيب وافر من إثارة الجدل في بعض الموضوعات والقضايا التي طرحتها، والتي أذكر منها على سبيل المثال: “الشخصية العراقية بين الأمس واليوم” وهو المقال الأول لي، ثم مقالاً بعنوان “السنة والشيعة والسجون الأربعة”، ومقالاً آخر عن “تجديد الخطاب الديني – دعاة الدين والنقد والذاتي”، ثم مقال “من سيدخل الجنة” الذي أثار كثيراً من المعارضات التي ما زلت أرجو أن لا تفسد للود قضية، خاصة مع القراء والأصدقاء الذين خالفوني الرأي، وأنا أحترم رأيهم وموقفهم، وأتفهم موقف البعض الذين خرجوا في ردات فعلهم عن حدود قيم الحوار وحرية الرأي والتفكير، وقد حاولت تبيان أهمية هذه الحرية في مقال سابق عليه بعنوان “التفكير في زمن التكفير”، وناقشت بالقدر المناسب وقتها إحدى أهم الإشكالات التي يعاني منها التفكير العربي المعاصر، أقصد مشكلة الجهل المقدس ووهم امتلاك الحقيقة، والتي وإن كانت ذات منبع ديني اعتقادي، إلا أن أعراضها أصابت مجمل مستويات حياتنا، الاجتماعية والسياسية والفكرية والعلمية.. وحتى الأخلاقية.

تجدد الجدل مرة أخرى، ولكن بوطأة أشد من ذي قبل، في سبتمبر الماضي عندما نشرت مقالي الآخر: “من سيدخل الجنة؟” ومع أنني كنت أدرك حجم إشكالية الأفكار التي ضمّنتها فيه، إلّا أن غير المتوقع كان حجم الهجوم الذي شنّه بعض القراء والمتابعين، والذي لا يفسره برأيي إلّا إصرار بعضنا على الانغلاق على أفكارهم ورفض رؤى وتصورات الآخرين فقط لأنها لا تتطابق بحذافيرها مع ما يعتقدونه أو يؤمنون به. ولذلك أثمّن عالياً موقف إدارة إيلاف التي نشرت “من سيدخل الجنة؟” رغم توقعها لما يمكن أن يثيره من هجوم على الكاتب وعلى الموقع ذاته، كما أثمن عالياً أيضاً إبقائها على المقال والتزامها الحياد تجاه جميع المواقف، سواء الموافقة أو الرافضة للأفكار التي تضمنها المقال. ثم رحّبت بالمقال الآخر الذي كتبته تعقيباً على الأول، وكان بعنوان: “استكمالاً لحوار سابق.. وحدة سبحانه يعرف من سيدخل الجنة”.

من ناحية أخرى.. كان من بواعث السرور لدي ما اكتشفته من توافق في الرؤى والتوجهات بين سياسات إيلاف العامة وبين ما أكتب وأطرح من أفكار حول الوضع العربي الراهن، ولا أقصد هنا التوافق في تفاصيل الأفكار وأدواتها، إنما في الإطار العام الذي ينبغي من وجهة نظري أن يركز على انفتاح العرب على الغرب، وتحسين أدوات ووسائل التواصل بين العالمين، وتوحيد جهودهما لإحلال السلام الإقليمي في المنطقة، وتكريس مفهوم جديد للأمن القومي العربي، والحد من تهديدات بعض الأطراف الإقليمية التي تتبنى أيديولوجيا الإسلام السياسي الراديكالي، والتي أصبحت تدخلاتها السافرة في الشؤون العربية لا تخفى على أحد، خاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ثم تتويج ذلك كله بالعمل على إيجاد الحلول الممكنة لإنهاء ملف الصراع العربي الإسرائيلي إلى الأبد، وتذليل جميع العقبات الصعوبات التي تحول دون ذلك. لتتضافر جهود جميع الأطراف المعنية في هذا السياق نحو إطلاق حركة تنمية عربية جديدة ومستدامة، ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل وكافة الصعد السياسية والثقافية والاجتماعية. هذه الأفكار جميعها وتفصيلاتها جاءت متضَمنة في عدة مقالات استضافتها إيلاف، منها: “هل من طريق ثالث للعراقيين؟”، “وهم إدارة واشنطن للشرق الأوسط”، “العرب إلى أين؟ هل من “طريق ثالث” يسلكه العرب؟”، “هل يمكن قيام مشروع مارشال عربي؟”، “إلى متى يبقى الشرق الأوسط جحيماً لا يُطاق”، “نحن الديمقراطية… متى يتحقق الحلم المنشود؟”، “هل سيبقى العقل السياسي العربي أسيراً لتاريخه؟”، “لبنان إلى أين؟”، “السلام عليكم.. يهوداً ومسلمين ومسيحيين”، “قيادات حولت حياة الفلسطينيين إلى جحيم لا يُطاق!”، “متى يُكسر الجمود في ملفات الشرق الأوسط؟”، “كي لا يخسر الجميع في سورية”، “فلسفة السلام في الإسلام”، وعناوين أخرى لا يتسع المقال لذكرها جميعاً.

وبعيداً عن السياسة ومشكلاتها، وعن مواضيع الفكر الديني وإشكالاته، كان بيني وبين إيلاف نافذة أخرى مشتركة في الموضوعات التي أحب، والتي أسعى دائماً لتكون على رأس أولويات اهتمامي، أقصد “ثلاثية” الشباب العربي والتعليم والثقافة، والتي تطرقت لها في عشرات المقالات، منها: “لماذا الشباب؟”، “الشباب بين فقدان الأمن وغياب اليقين.. الواقع والمعوقات والحلول”، “الشباب بين “الأمن الفكري” والعولمة”، “كيف قتل التعليم عند شبابنا اليوم؟”، “أين شبابنا اليوم من مستقبل اقتصاد المعرفة؟” “أيها الشباب هل أنتم إيجابيون؟”، كيف يشكل الشباب هويتهم؟”، “أزمة القيم في مجتمعنا”، “التعليم العربي.. استبداد من نوع آخر”، “تأملات رجل أعمال في موضوع الثقافة”، “أوهام النخبة المثقفة إلى أين؟”.

أخيراً.. كنت أظن أن رصد هذه العناوين سيكون سريعاً ولن يأخذ مني الوقت الطويل، لكن الظن لم يكن في محله، ومع ذلك انقضى هذا الوقت دون أن أشعر به وأنا أعود لقراءة بعض المقتطفات من هذه المقالات، وأعود أحياناً إلى بعض التعليقات والردود، مغموراً بمشاعر الامتنان للسادة الزملاء وكوادر إيلاف على جهودهم لتوفير هذا الحيّز في عالم الثقافة والكتابة اليوم. شكراً لإيلاف، ولرئيس تحريرها الأستاذ عثمان العمير ونائب رئيس التحرير الأستاذة سمر عبد الملك، ولفريقها، ولجمهورها من القراء والمتابعين. واليوم وانا أدرك أهمية منبر ايلاف اعد جمهورها من القراء بالاستمرار في طرح أفكاري ولكن ليس بشكل اسبوعي نظراً لعدم توفر الوقت الكافي وانشغالي ببعض الأمور الخاصة.

التعليقات