كتاب 11

02:54 مساءً EET

الدولة المظلمة

هل يمكن تصنيف المجتمعات والدول على خط أو طيف (spectrum) أساسه الظلام والنور؟ وهل لتصنيف مثل هذا أي قيمة تحليلية؟ بمعنى أن يكون هذا التصنيف مفيداً في تفسير سياسات الدول داخلياً وخارجياً؟ وما الفرق الجوهري -إذا كان هناك فرق- بين مفهوم الدول المظلمة والدول المضيئة، مقابل مفهوم الشفافية السياسية الذي زاد استعماله في السنوات الأخيرة؟ وكيف يمكن إشاعة النور في الدول المظلمة؟ وهل سيكون التنوير على مستوى الأفراد أم المجتمع أم المؤسسات؟ وهذا يدخلنا في الجانب التطبيقي للمفهوم، وعلاقاته بالسلطة أو القوة أفقياً بمعني المكان، أو رأسياً بمعني التجارب الإنسانية عبر العصور.
دوماً، مع طرح أي مفهوم جديد، يبحث الناس عن التعريف أولاً؛ تعريف بالمعنى العام، وتعريف إجرائي يساعدنا على قياس الظاهرة.
بداية، الدولة المظلمة فيها من الظلام والظلم معاً، تكون فيها رؤية المواطن لما يحدث داخل الدولة أمراً بالغ الصعوبة، ما يدفعه إلى الاعتماد على التخمين في غياب المعلومة. وفي غياب المعلومات، تنتشر الإشاعات والنميمة. وحتى إن وجدت الأدوات الحديثة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي الحالية، فإن المحتوى المتداول يبقى أقرب إلى الإشاعة والنميمة منه إلى المعلومات. إذن، الدولة المظلمة هي دولة إشاعاتية بامتياز نتيجة لغياب الشفافية والمعلومة. أما على مستوى التعريف الإجرائي، فالدولة المظلمة هي الدولة التي تنتهك حقوق الإنسان بشكل روتيني. والدول المظلمة أنواع، منها الدول الدامسة أو حالكة الظلام، مثل كوريا الشمالية وأفغانستان اليوم أو ليبيا القذافي سابقاً مثلاً. وفي حالة دول كهذه، دوماً ما نتساءل: هل المجتمع الأفغاني المظلم ثقافياً هو الذي أنتج دولة «طالبان» أم أن ثقافة «طالبان» الظلامية هي التي صبغت المجتمع بتلك الصبغة الداكنة؟ أفغانستان وليبيا القذافي وكوريا الشمالية هي الطرف النقيض للدول الديمقراطية المضيئة، كألمانيا وبقية غرب أوروبا مثلاً، وتقع بين النقيضين دول أقل ظلاماً أو أقل نوراً، أو دول عليها أنوار في الواجهة من الخارج ولكنها مظلمة من الداخل، وهذا النوع يحتاج إلى حصافة في قياس مساحات الظلام والنور فيها. وفي الدولة المظلمة، كما في معامل تحميض الأفلام، يكون الظلام ضرورة أساسية للتصوير أو إظهار الصور لأنها قبل التحميض هي مجرد نيجاتيف، أو ما نسميه في مصر «العفريتة»؛ الدولة العفريتة. في الدول المظلمة، تجد لنفسك تسجيلاً بالصورة أو الصوت أو كليهما معاً بهدف الفضيحة أو الإذلال حتى لا تخرج عن الخط المرسوم لك. وهذا الخط نتيجة لضغط الظلام تصنعه أنت أو تتخيله، ثم تمارس حياتك بناء على وهم متخيل.
ولتوضيح الفكرة، فإنه في أثناء حكم النازي هتلر، كان في ألمانيا مفهوم العمل من أجل الوصول لمفهوم الفوهرر أو الديكتاتور؛ أي أنك تحاول أن تتخيل ما يمكن أن يرضيه أو يرسم ابتسامة على شفتيه. فمثلاً، قد يتطوع مواطن بجملة فيها معارضة لسياسات هتلر، فيقوم مواطن آخر بقتله، في محاولة منه لإرضاء الديكتاتور، أو رسم ابتسامة رضا على شفتيه، رغم أن هتلر لم يطلب منه ذلك. إذن، العنف الذي يمارس في الديكتاتورية أحياناً هو عنف تطوعي من مواطن ضد مواطن آخر لم يطلب منه أن يمارس العنف، لكنه يقوم به تطوعاً ظناً منه أن هذا يرضي من هم في الحكم. هذه الممارسات هي نتيجة لظلام الدول وظلمها، ولكن في الحالة الألمانية تم تعافي المجتمع وشفاؤه بعد التغير الذي حدث إثر الحرب العالمية الثانية، وخرجت ألمانيا من عالم الظلام إلى عالم النور، وحافظت على هذا النور لما يقرب من سبعين عاماً.
إذن، يمكن للدول المظلمة أن تصبح دولاً منيرة مضيئة، كما الحالة الألمانية، ولكن هذا يتطلب إضاءة في المجتمع والثقافة، ووجود ميكانزمات للحفاظ على هذا النور، وأدوات أخرى تمنع الظلم والظلام. وبالطريقة نفسها، يمكن أن تنتكس دولة مضيئة إلى حد ما، مثل أفغانستان في الفترة الملكية أو إيران في زمن الشاه، إلى دول حالكة الظلام، كدولة الملالي في طهران أو «طالبان» في أفغانستان.
في هذه المقدمة لفكرة الدولة المظلمة، حاولت أن أرسم ملامح الأطراف بين الدول المظلمة من ناحية، والدول المنيرة على طرف النقيض الآخر. أما ما بينهما (وهي حالات كثيرة) فهو موضوع لمقال آتٍ من أجل توسيع الفكرة، والتأمل في القدرة التحليلية للدولة المظلمة.

التعليقات