مصر الكبرى

07:21 صباحًا EET

رمضان والتلفزيون في الوطن العربي

في شهر رمضان المبارك تسجل مشاهدة التلفزيون، في مختلف أنحاء العالم العربي، أعدادا قياسية من ساعات اليوم والليلة. لست أتوفر شخصيا على معطيات إحصائية في الموضوع، بل ولست أعلم ما إذا كانت دراسات ميدانية قد تم إنجازها في هذا الصدد، ولكني أميل إلى الاعتقاد أن مشاهدة التلفزيون في الوطن العربي تبلغ مرتبة «الذروة» في الشهر الفضيل. هنالك مؤشرات عدة تؤكد هذا الزعم، أهمها عندي احتفال القنوات والفضائيات العربية بشهر رمضان وإكثار الحديث عن الاستعداد له وعن البرامج التي يعلن عنها بالمناسبة – فكل القنوات والفضائيات تتحدث عن جديد رمضان، ونوع من التباري والمنافسة الخفية تقوم بين مختلف المحطات الفضائية. وهنالك مؤشر آخر، دال، هو وفرة «المسلسلات» التي تعد للمناسبة، وعلمت مما قرأت في الصحف العربية أن عدد المسلسلات التلفزيونية بلغ هذه السنة خمسة وستين (65)!

مرة ثانية أقول إنني لا أتوفر على إحصائيات تتعلق بالإنتاج التلفزيوني في الوطن العربي بيد أنني أجيز لنفسي القول بأن الرقم ليس مرتفعا فحسب بل ربما كان يمثل نسبة مئوية لعلها لا تقل عن ثلثي الإنتاج التلفزي العربي الدرامي. ما أعرفه هو أن أكثر المسلسلات العربية شهرة ونجاحا هي تلك التي تم إعدادها بمناسبة الشهر الكريم وتم بثها في أيامه (محمد رسول الله، ليالي الحلمية، بوابة الحلواني، الحاج متولي، وأخرى كثيرة ارتفع بها ذكر المرحوم أسامة أنور عكاشة في كل أرجاء البلاد العربية)، فضلا عن المسلسلات السورية التي كانت مناسبة سانحة لظهور أسماء مسرحية غير مألوفة للمشاهد العربي.
أحسب أنه لا مبالغة في القول إن شهر رمضان الكريم هو شهر الاستهلاك الأقصى للتلفزيون في العالم العربي، مثلما هو شهر الدرجات العليا من الاستهلاك الغذائي عامة ومن الحلويات والسكريات خاصة. تتحلق الغالبية العظمى من ساكنة الوطن العربي حول مائدة الإفطار فيما الأعين مشدودة إلى الشاشة الصغيرة تترقب أذان المغرب. يظل التلفزيون بؤرة الاهتمام ومحط الأنظار في السهرات الرمضانية، حيث إن التزاور والسهر من عاداتنا العربية الراسخة، وتتوجه الأنظار إلى الشاشة السحرية في فترات الكسل والخمول التي تسبق موعد الإفطار.
واقع الاستهلاك التلفزيوني في شهر رمضان في العالم العربي يحمل على التنبيه إلى جملة معطيات (أو ملاحظات)، ليست علمية ميدانية ولا شاملة حصرية، وإنما هي تستوجب التكملة والتوضيح بطبيعة الأمر كما يدفع إلى طرح جملة أسئلة تتصل في نهاية الأمر بواقع المجتمع العربي في عمومه.
الملاحظة الأولى هي أن السنوات العشر الأخيرة عرفت ظهور عشرات الفضائيات العربية الجديدة التي دخلت مئات الآلاف من البيوت العربية، كما أن قنوات كثيرة تبث عبر أقمار صناعية التحقت بها من كل من تونس، وليبيا، ومصر منذ الأسابيع الأولي التي أعقبت الإطاحة بأنظمة بن علي، والقذافي، ومبارك. بيد أنه من الواضح أن الفضائيات التي ظلت تستقطب انتباه المشاهد العربي وتستهوي قلبه ظلت محدودة في نهاية الأمر. نعم، هنالك فرح بكل المحطات الجديدة وخاصة في كل من تونس وليبيا حيث كان بؤس التلفزيون الوطني والقبضة الحديدية للنظام الحاكم على برامجه وساعات إرساله جميعها، ولكن الغلبة، عند المشاهد في البلاد العربية المختلفة ظلت في ملك فضائيات محدودة معلومة، وظل التنقل بين القنوات التي تبث باللغة العربية عادة تتحكم أكثر فأكثر في سلوك المشاهد العربي.
الملاحظة الثانية هي أن الفضائيات العربية أبانت عن قدرات هائلة في خلق بؤر انتباه واحدة عند المشاهد العربي، سواء كان ذلك في مجال الإعلام والتثقيف أو تعلق بمجال المتخيل أو العالم الافتراضي. ربما كان، في الحديث عن هذا المجال الثاني، واقع الانشغال بأبطال المسلسلات الرمضانية مليئا بالدلالة وبالتالي كان ناطقا بذاته. تختفي الجنسيات والفوارق الحدودية، بل والفروق المحلية في اللهجات ليكون التوجه نحو الموضوع أو البطل أو المادة التلفزية المقدمة. يصح القول إن المشاهد العربي، في عمومه، يجد كثيرا من أحلامه الدفينة ومن احتجاجه على الظلم الاجتماعي والفساد الإداري وسوء التدبير.. هنالك نوع من الإشباع العاطفي ومن الهرب من عالم مشترك، واقعي، إلى عالم آخر، افتراضي، يكون الاشتراك في جوانب شتى من مكوناته.
ربما صح الحديث، بدرجة أقل، عن نوع من المماثلة بين ما تستطيع المسلسلات والمسرحيات الهزلية (الخالية، في الأغلب الأعم من كل مكونات درامية والبئيسة من حيث المعايير الجمالية والتقنية) وما تملك تقديمه برامج الإرشاد الديني في جوانبها المتنوعة لكن النتيجة عندنا تظل واحدة: القدرة على مخاطبة «مشاهد عربي» واحد في كل من موريتانيا واليمن ومصر والعراق وعمان والمملكة العربية السعودية وليبيا وتونس والمغرب وباقي البلاد العربية الأخرى. لنقل، في عبارة أخرى، إن التلفزيون العربي، في شهر رمضان، يكشف عن قوة الانتماء إلى المشترك الثقافي الواحد (وقد أخذنا الثقافة في المعنى الأشمل للثقافة) وإلى الاشتراك في الآمال والأحلام وكذا في أسباب التذمر والقلق الاجتماعي.
الملاحظة الثالثة، والأخيرة، هي أن التلفزيون، في شهر رمضان، قد استطاع أن يحدث تغييرا ملحوظا في العديد من العادات الاجتماعية في العالم العربي: فالتلفزيون قد أخذ يكتسح بؤرة الاهتمام، أكثر فأكثر، ويكيف الأذواق، ويخلق مرجعيات مشتركة سواء تعلق الأمر بالسخرية والتندر أو في التعبير عن النماذج الاجتماعية المقبولة أو المرفوضة ويخلق شخصيات محبوبة أو مرفوضة (سواء تعلق الأمر بشخصيات واقعية أو افتراضية – كما تصور حلقات هذا المسلسل الناجح أو ذاك). ربما بلغ الأمر، في بعض الأحيان درجة التأثير في مواعيد الزيارات العائلية والمواعيد الاجتماعية قياسا إلى هذا البرنامج المحبوب أو ذاك وإلى هذا المسلسل أو ذاك. ومن شأن الوقوف، بالحفر، في هذه النقطة الإبانة عن قضايا وإشكالات تستوجب العناية وتسترعي الانتباه.
الملاحظات الثلاث السابقة (وهي بطبيعة الحال بعض من ملاحظات كثيرة ومتنوعة، تقبل التعميم وتصح في حال عموم البلدان والمجتمعات العربية) تستدعي أسئلة كثيرة، ملحة بل ربما حارقة، نسهم بطرح البعض منها.
لا غرو أن التلفزيون قد أحدث في بلاد العرب نوعا من الرجة العظمى – كما أحدثها في كل بلاد الدنيا – رجة أصبح بموجبها من التأثير على العقول والنفوس وطرائق الإدراك ما امتلكه بفعل الأثر الحاسم الذي تحدثه الصورة بحيث أن التلفزيون قد أصبح، كما يقول أحد الفلاسفة المعاصرين «وسيلة فوق واقعية» أو كما كتب أحد علماء الاجتماع العرب «نحن نستمد وعينا عن الواقع من التلفزيون.. فأي شيء لا يذاع في التلفزيون يظل أقل واقعية». وبفضل التقدم التكنولوجي الهائل وما كان عنه من التطور الحاصل في وسائل الاتصال عامة وفي الفضائيات خاصة، أمكن للمشاهد العربي أن يتابع، بالصوت والصورة وفي «الزمن الواقعي» (البث المباشر الحي) أن يرقب تهاوي برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وأن يشاهد قصف بغداد، وأن يتابع تطور الأحداث في سيدي بوزيد وفي نهج بورقيبة، وأن يلاحق، في قلق ورجاء كبيرين مشاهد الدمار في إجدابيا ومصراتة بالأمس القريب ويعتصر الألم قلبه وهو يرى مشاهد التقتيل الجماعي والإبادة في ريف دمشق وفي حماه وحلب ودير الزور وغيرها في سوريا. فهل استطاع التلفزيون، في الوطن العربي، أن يكون أداة استعلام واع ووسيلة تكوين وتثقيف وإمتاع، على النحو الذي استطاعه في البلاد الأخرى من بلدان المعمور؟

التعليقات