مصر الكبرى

09:16 مساءً EET

أكذوبة الحوار مع تيارات الإسلام السياسي

ليست هناك فريةٌ في تاريخ الفكر العربي والإسلامي أكبرَ ولا أكثر كذبا وتلفيقا من فكرة الحوار مع تيار الإسلام السياسي وممثليه ذلك لأن هذا التيار لا يبدأ أي حوار ولا يدخل فيه إلا وهو معتقد أنه يمتلك الحقيقةَ مقدَّما

وقناعاته الخاصة أنه سيدخل الحوار ليهدي الطرفَ الآخر للحق والرشاد وينقذه من الضلال …! ومنذ سنواتٍ بعيدة دعا الراحل الدكتور سمير سرحان رموزَ الفكر والتنوير في مصر للحوار مع بعض رموز وممثلي التيارات الدينية في إحدى دورات معرض القاهرة الدولي للكتاب ورغم أن ممثلي تلك التيارات كانوا ممن يُقال عنهم معتدلون وقتها إلا أن ذلك الحوار انتهى بكارثة وفضيحة بعد أن استطاع رموزُ التنوير إحراجَهم وكشفهم وفضحهم على الملأ فتم إطلاق الرصاص على أحدهم وجرت محاولة اغتيال روائي كبير .. كل ذلك بسبب رغبة المثقف المصري في الحوار والتواصل والمناقشة مع الآخر .. تذكرتُ هذا بعد أن انتشرت في الشارع المصري فكرة أن عداء الليبراليين والقوى المدنية لتيار الإسلام السياسي غيرُ مجدية ولا ناجعة الآن بعد أن وصل لسدة الحكم في مصر وأنه لا بد من الحوار معهم. وعادت بي الذاكرة شهورا للوراء عندما تذكرتُ ما حدث في الجلسة الختامية لمؤتمر أدباء مصر والذي عُقد في القاهرة وفي حضور وزير الثقافة المصري السابق الدكتور شاكر عبد الحميد إذ أثناء حواره مع أدباء ومثقفي مصر طلب أحدُهم الكلمةَ والمداخلة لُيقسم بالله العظيم أنه ليس سلفياً ولا إخوانيا ثم يطلب من الوزير ومن الحضور إعطاءَ الفرصة للسلفيين للمشاركة والحوار الثقافي وعدم المصادرة عليهم مسبقا ..! ولم أستطع أن أكمل لأستمع لإجابة الوزير لأنني أعرفها جيدا لكنني خرجتُ من قاعة المؤتمرات لأتأمل المشهد. فقد كاد المؤتمر أن يتحول في حفلته الافتتاحية إلى كارثة بسبب عبقرية السلفيين في الحوار ونبوغهم في التواصل الثقافي الذي يريده مَن طالبَ به وزيرَ الثقافة ورغم ثقتي الكاملة أن إجابة الوزير لم تخرج عن ترحيبه بذلك لأنه يترجم ويعبر عن مشاعرنا جميعا لكن ما فات السائلَ وبعضَ حضور المؤتمر هو قراءة ما حدث أثناء افتتاح المؤتمر نفسه حيث لم يكد الشاعر الكبير فؤاد حجازي – رئيس المؤتمر وقتها – يمضي في كلمته مرحبا بالحضور ومستعرضا الأحوال الثقافية والسياسية في مصر خلال الفترة الحالية مشيرا إلى نتائج بعض الانتخابات وتقدم بعض القوى السياسية مُعرِبا عن رغبته في أن يحتل المثقفون المشهدَ بما لهم من رؤية حتى تواصلَ بعضُ السلفيين بعبقريتهم ونبوغهم المشار إليهما حوارا ونقاشا معه ولكن أي حوار وأي مناقشة …! هبُّوا واقفين – والرجل على المنصة يتكلم – مقاطعين إياه في جلبة وصياح لتتحول القاعة إلى ما يشبه الفوضى بسبب صراخهم وعويلهم ورغبتهم أن يسكت الرجل – الذي هو رئيس المؤتمر والذين هم في ضيافته – أو يتراجع عن كلماته. وليحاول رجال الإعلام والعلاقات العامة احتواء الموقف دون جدوى …! وكلما تصورنا أن الموقف انتهى وأنهم اكتفوا بما صنعوا من شغب وضوضاء قاموا مرة أخرى منددين بكلمته دون أي اعتبار لآداب الحوار ولا الاستماع للرأي ثم طلب الكلمة للتعقيب فهل هذه هي الفرصة التي أرادها السائل في ختام مؤتمر الأدباء والتي طلبها من الوزير ومن المثقفين؟ ومتى كانت وزارة الثقافة ولا متى كان المثقفون ممن يصادرون رأيا أو يقصفون قلما أو يحجرون على حرف أو كلمة؟ إن تاريخ المصادرة والحجْر والنفي والتخوين والتكفير كله تاريخ يشهد بحصول كل المنتمين للتيار الديني على قصب السبق فيه دون أن ينازعهم فيه أحد. ولماذا نذهب بعيدا وأمامنا تصريحات عبد المنعم الشحات في حق أدب نجيب محفوظ؟ الغريب أن المثقفين هم الذين بحت أصواتهم دائما في طلب الحوار مع كل ذي لحية وزبيبة ومسبحة وجلباب أبيض. دائما يناشد المثقفون أولئك أو هؤلاء أن يتحاوروا وأن يتناقشوا شريطة الالتزام بآداب وشروط الحوار بينما هم لا يعرفون من الحوار إلا الصراخ والتهديد والوعيد واستدعاء الآيات والتذكير بالماضي الذي لا يرون فيه إلا مقدسا وطاهرا وجميلا فقط ..! وحتى الآن لا أعرف على المستوى الشخصي ما طبيعة ذلك الحوار الذي يطالب به البعض بين الفريقين بينما يزعم أحد الفريقين امتلاكه للحقيقة المطلقة؟ والغريب أيضا أن كل المثقفين المصريين احترموا نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة قبل قرار حل مجلس الشعب واعترفوا بحرية الرأي والديمقراطية ولم يصادروا على اختيار الشعب فلم نشهد تجمعا ولا احتشادا ولا مظاهرة ضد نتائج الانتخابات ولا اعتراضا على اختيار الشعب المصري وهو ما نشك كثيرا أنه كان يمكن أن يحدث لو كانت النتيجة على عكس ما حدث تماما. وأمامنا شاشات التليفزيون والقنوات الفضائية التي حرصت في الفترة الأخيرة على استضافة ممثلي التيارات الدينية من سلفيين ومن إخوان ومن غيرهما في وجود مثقفين ليبراليين أو علمانيين يؤمنون بالمجتمع المدني ورأينا كيف يكون الحوار فبينما يتحدث المثقف من الأرض يتحدث الديني من السماء، وبينما يتكلم المثقف عن الإنسان يتكلم الديني عن الله وكلما استشهد مثقف بحادثة تاريخية أو ضرب مثلا استدعى الآخرُ آياتِ الكتاب ومواقف الرسول الكريم …! فهل ينطبق على ما يحدث مسمى الحوار؟ وحتى لا يظن القاريء أننا ضد الحوار أو أننا نرفضه نقول إن للحوار شروطا وضوابط يجب الاعتراف بها أولا قبل البدء فيه  فإذا توافرت هذه الشروط أو تلك الضوابط يمكننا البدء في حوار وأول هذه الشروط عدم الزعم بامتلاك الحقيقة بل البحث عنها والتقاطها أينما وجِدت عندي أو عند غيري. ومن بين هذه الشروط والضوابط الحديث حول الواقع ومن الواقع حيث الإنسان الذي هو خليفة الله على الأرض فليس من المنطقي أن يكون الحوار حول دعوة المتحاوِر للهداية أو التوبة خاصة وأن الواقع الذي نتحاور حوله هو واقع أرضي دنيوي سياسي واجتماعي وثقافي مأزوم نبحث فيه عن حلول لأزمة الصحة والسكان والتعليم والبطالة وما إلى ذلك وليست أزماتنا في الصوم ولا في الصلاة ولا في عبادة الله خاصة أيضا أن هذا الحوار المنشود الآن مرتبط بمستقبل مصر ومشروع نهضتها المزعوم وليس مرتبطا بالحج ولا الردة ولا الزكاة …! ولعلنا لم ننس بعدُ ما حدث منذ شهور عندما صرح رئيس حزب الأصالة ( وهو حزب ذو مرجعية سلفية ) بأنه لن يقوم بتهنئة الأقباط المسيحيين بعيد الميلاد لوجود حاجز نفسي بينه وبينهم …! نشرَ فضيلته هذا الكلامَ في الصحف وعلى مواقع الإنترنت وذهب بنا الظن أنها تصريحات مفبركة أو مزعومة أطلقها مغرضون ولم تكد تمر ساعات قليلة حتى تفضل فضيلته علينا بالدخول في مداخلات تليفونية عبر أكثر من برنامج فضائي ليؤكد كلماته بنفسه …!!! فهل مثل هذا التصريح يمكن أن يدعونا لفكرة الحوار معه؟ ولماذا نحن مضطرون دائما أن نبدأ من الصفر ومن الوراء؟ هل صاحب هذا الحزب يرى أن مشكلات مصر انتهت كلها ليتفرغ لمثل هذا التصريح؟ وأين خططه وبرامجه السياسية وأهدافه التي يقدمها للمصريين؟ سيرى البعض أننا مطالبون بالحوار معه وإعطائه الفرصة للتعبير عن حريته … حسنا وكم من الوقت والجهد الذي يمكن أن ننفقهما لإقناعه بأن الأعياد الدينية فرصة ومناسبة اجتماعية ووطنية لتكاتف الشعب وإظهار قيم التعاطف والمحبة والمشاركة؟ ومتى يمكننا بعد ذلك أن نناقش قضايانا الوطنية وأزماتنا الطاحنة؟ لا شك عندنا أن الحوار قيمة وفضيلة لكنه مشروط دائما بأهدافه ووسائله وغاياته ولم يحدث قط من قبل أن عارض المثقفون الحوار أو رفضوه بل إنهم هم الذين يدعون إليه وهم الذين يدفعون ثمن عدم الحوار معهم سواء أكان ذلك بينهم وبين سلطة الاستبداد السياسي الديكتاتوري أو كان بينهم وبين سلطة الاستبداد الديني ولسنا في حاجة للتذكير ولا للإشارة بحجم الكتب والمؤلفات التي تمت مصادرتها خلال الثلاثين عاما الماضية نتيجة غياب الحوار عن المجتمع المصري، كما أن الذاكرة لا تزال حية لتشهد على ما أريق من دماء المثقفين بسبب عدم رغبة الطرف الآخر في الحوار لكن قدرة التيارات الدينية فائقة على قلب الحقائق دائما …!

التعليقات