مصر الكبرى

02:32 مساءً EET

وداعاً مصر التي نعرفها

لحظة دقيقة، فارقة، تحتاج إلى أقصي قدر من المصارحة الموجعة، لقد وقع ما توجسنا منه، وصلت جماعة الإخوان التي لا يؤمن قادتها بفكرة الوطن إلى ذروة السلطة في بلد لا يعترفون بتاريخه، أو حدوده، أو خصوصيته،

أي إنهم يحكمون الآن وطناً لا يعترفون به، إنه مجرد ولاية ضمن ولايات سوف يحكمها الخليفة المنتظر، الذي ربما يكون أحد شيوخ الخليج أو رجل أعمال من ماليزيا، أما العاصمة فهي القدس، هذا ما أعلنه أحد دعاتهم، لحظة فارقة في مسار وطن نودعه فيها إلى حين، وأؤكد إلى حين، فسرعان ما سيكتشف المصريون الكارثة التي اختارها بعضهم في أول انتخابات تجري في تاريخنا الحديث لانتخاب رئيس، وكما يقول المؤرخون المصريون في العصور الوسطى، «لكنها فرحة ما تمت..«
من عجائب مصر التي حيرت العالم بتناقضاتها، قام المصريون بثورة عظيمة في مسار الإنسانية، وكنا ننتظر تطور الأوضاع إلى الأفضل، بداية صعود الدولة، غير أن الأحداث جرت بما لا تشتهي السفن فحادت الآمال عن مرافئها، وكان من نتائج الثورة الأساسية وصول أول رئيس من جماعة الإخوان التي تؤسس لمشروع دولة دينية، أي فشل مشروع الدولة الحديثة التي أسسها محمد علي واستمرت بدرجات متفاوتة من الصعود إلى الهبوط ولكن جوهرها استمر وتضمنته الدساتير المصرية بدءاً من دستور ١٩٢٣ الذي جاء معبراً عن ثورة ١٩١٩، حيث كانت القيادة واضحة، والإطار قويماً، أعني حزب الوفد، وسعد زغلول الذي اختاره الشعب وأضفي عليه أسس وقيم الزعامة، وكان سعد باشا جديراً حقاًّ بها فتحمل النفي والتشريد وتعرض لمحاولات اغتيال، غير أن الثورة انتصرت على مستويين، الظاهر والباطن، فقد أثمرت واحداً من أعظم الدساتير التي عرفتها مصر في عام ١٩٢٣،
وكان التغير العميق في روح المصريين هو الأثر بعيد المدى الذي أسس لنهضة مصر الروحية التي تجسدت في جميع مجالات الإبداع، المسرح، الموسيقى، الأدب، توفيق الحكيم، يحيي حقي، نجيب محفوظ، حسين فوزي، عيسى وشحاتة عبيد، طاهر لاشين، يوسف وهبي، مصطفى مشرفة في العلم، وطه حسين وأحمد أمين والعقاد وأمين الخولي وصولاً إلى عبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وحتى جيل الستينيات الذي ننتمي إليه، ورغم ان وعينا تفتح مع ثورة يوليو، إلا أننا تكونا مما تبقى من روح ثورة ١٩١٩ الليبرالية، تتلمذنا في الأدب والفكر على أيدي وأفكار الأسماء الجليلة التي ذكرتها، من لم يعرفهم مباشرة تتلمذ على نصوصهم، لذلك كان إيمان جيلنا بالحرية عميقاً وحقيقياً وهذا ما دفع بمعظم رموزه إلى المعتقلات والفصل والتشريد، النقطة التي توحدنا فيها مع ثورة يوليو قضية العدل الاجتماعي والتي مثلها عبدالناصر وتخلى عنها السادات واستباحها مبارك، كانت ثورة يناير انفجاراً هائلاً للشعب المصري التقي صدفة مع مجهود مجموعة من الشباب قادوا عملاً منظماً استثمر وسائط الاتصال الحديثة، وسواء كان هذا بدافع منهم أو نتيجة تدريب خارجي فقد أدى الغرض منه ونجح الحشد الذي بدأ عصر يوم الخامس والعشرين.
في نفس الوقت كانت الظروف قد نضجت لبدء الحركة الخاصة للشعب المصري، عندما يتحرك المصريون جميعاً في وقت واحد، من أجل هدف واحد، في اتجاه معين، هنا يتجسد المبدأ المصري القديم الذي ورد في كتاب «الخروج إلي النهار» كتاب مصر القديمة المقدس الذي يحوي أدلة الموتى في المجهول لتستقر أرواحهم إما في الجنة أو النار، يقول المبدأ «هناك، عندما يصبح الكل في واحد» توحد المصريون، كل في واحد، خلال الأيام ما بين الخامس والعشرين من يناير وحتى الحادي عشر من فبراير ثم انفرط عقدهم فتقدم لصوص الثورات كما يحدث في التاريخ، الأكثر تنظيماً، الأكثر دهاء، وهم الاخوان المسلمون الذين يحملون مشروعاً متكاملاً منذ ثمانية عقود لتغيير الدولة المصرية، وهوية المصريين، الرئيس الذي انتخبه بعض المصريين وأعلن فوزه لم يأت بالانتخاب لكي يغادر بانتخابات أخرى، لقد جاء كقناع، لآخرين، هؤلاء لديهم مشروع للبقاء، لتأسيس دولة أخرى، إذن نحن نقف علي حدود المجهول، لكن المؤكد أن مصر التي عرفتها الإنسانية مهددة بالزوال علي يدي قوة غزو داخلية، ويعلمنا التاريخ أن أبشع أنواع الغزو ما جاء من الداخل.
إحنا بتوع ربنا
لم ينتخب الرئيس المنتمي إلي الإخوان بالديمقراطية لكي يذهب بها، هذا ما تثبته تجربة حماس في غزة، وحماس مجرد فرع للاخوان، ولكن أحياناً يكون للفرع تأثير علي الأصل خاصة إذا مارس خبرة لم يعرفها المنبع، الاخوان لم يمارسوا السلطة إلا من خلال سيطرتهم على البرلمان ومجلس الشورى، الأول رأسه الدكتور الكتاتني وهو أستاذ في علم الحشرات، والآخر صيدلي يحاول السيطرة على الصحف القومية منذ تعيينه لحساب جماعته، الملاحظ تمسك قيادات الاخوان لجميع مظاهر السلطة، بل إن الزاوية التي يتم من خلالها تصوير رئيس مجلس الشعب تجعل ملامحه تتحول مع الوقت لتشبه ملامح فتحي سرور، غير أن الثاني القابع في السجن الآن كان أستاذاً للقانون وكان أداؤه أفضل رغم اننا ضقنا به لاستمراره عشرين عاماً كاملة، سنلاحظ التمسك بمظاهر السلطة، بدءاً من باقة الزهور الأجنبية الفاخرة التي يضعها اسماعيل هنية أمامه في الاجتماعات، إلى السيارة الـ«بي. إم دبليو» المصفحة التي تنعم بها الدكتور الكتاتني ولعله يفتقدها الآن إذا كانت سحبت منه، إنهم طلاب سلطة، يريدون السيطرة علي الدولة المصرية أقدم دولة فى العالم، كان من السهل خلع أي ملك أو رئيس، مبارك تولت القوات المسلحة أمره ولم يستطع المقاومة، لكن الرئيس المنتمي إلى الإخوان لم يكف طوال الحملة عن ترديد «احنا بتوع ربنا.. »، كيف سيمكن اقصاء من لديه التفويض الإلهي؟ سيكون الثمن فادحاً، خلال الشهور الماضية شهدنا في البرلمان والشورى هموما شكلية تخص الاخوان، ولا تعني بالشعب.
لم تناقش مشاكل الاقتصاد أو البطالة أو القضايا الحيوية التي تمس الأمن القومي للوطن مثل مياه النيل، والحدود الغربية والجنوبية، ذهب الكتاتني وترأس وفد الاعتذار المهين إلى المملكة ولم يفكر في زيارة الحبشة، أداء شكلي باهت، ومظاهر لا تمت إلى الدين الصحيح، مثل رفع الآذان من قبل المرشح الرئاسي في الاسكندرية، ها هو قد أصبح رئيساً فهل سيرفع الآذان أثناء إلقائه خطاب مصر في الأمم المتحدة أو من فوق المحافل الدولية عندما يحين وقت الصلاة؟، غير أن الأمور التي يمكن أن تتسم بالجدية والتي طرحت، تتصل كلها بالسيطرة على الدولة، مثل قانون توحيد المحاكم الذي يؤدي عملياً إلى إلغاء المحاكم الدستورية، والإدارية، ومجلس الدولة، إن تنوع القضاء المصري مكنه من الوقوف ضد الدكتاتورية في أوقات ومواقف مختلفة، أيضاً محاولة إلغاء الأزهر كمرجعية دينية أساسية لكي تحل مرجعية المرشد مكان الشيخ الجليل الذي يجلس علي قمة أقدم جامعة في العالم، وأحذر منذ الآن أن أحد أهداف الرئيس الاخواني الاستيلاء علي الأزهر، سوف يكون ذلك في إطار سياسة مضادة للثقافة بشكل عام، قوامها فكري، فالاخوان يعتبرون الحضارة المصرية القديمة وثنية ويتخذون منها موقفاً عدائياً، ومن الممكن أن تنظم حملات لتدميرها أو هدها حتى ان لم يجر ذلك في نسق عام فربما يقوم بعض المتعصبين الأشد موقفاً والذين يمكن أن ينشقوا عن الاخوان بذلك، هذا ما نراه في اليمن والصومال، بعد إضعاف الدولة المصرية واستباحتها يمكن أن يجري كل شيء، وأن يقع أي محظور يمكن القول الآن باستحالته، سوف تزداد الرقابة على الأعمال الفنية والثقافية، سواء كانت محلية أو أجنبية، ولذلك من المتوقع أن تفقد مصر آخر ما تبقى لها من قواها الناعمة.
تلك القوى التي وفرت لها الريادة بدون اقتصاد قومي، أو قوة مسلحة جبارة، الدور الثقافي لا يتوافر إلا عبر تراكم طويل، وهذا الدور بدأ منذ آلاف السنين، مصر أهدت الإنسانية منذ فجر التاريخ أعظم اكتشافين، وجود الخالق سبحانه وتعالى عندما آمن المصريون أن هذا الوجود لم يأت صدفة، وأن ثمة من يدبر الأمر، جاء ذلك عبر تأمل طويل لا نعرف كم استغرق بالضبط، شروق الشمس وغروبها، مواقع النجوم، جريان النهر في مسار مرسوم وفيضانه في وقت معلوم، أما الثاني فهو الكتابة، مصر هي التي اخترعت الأبجدية قبل سومر وبابل في العراق القديم، هذا ما أثبتته الكشوف العلمية التي أجريت وتم التوصل إليها في السنوات الأخيرة، آثار مصر التي تشكل ثلثي ما وصل إلى الانسانية في العصر الحالي لا نعرف مصيرها مع دولة أخرى تعتبر التماثيل محرمة والتصوير ضد العقيدة.
في هذه الدولة الدينية لن تكون هناك حرية للإبداع، لا الأدبي ولا الفني، سيتم تحديد شروط مسبقة، وستكون الرقابة في المناخ، في الهواء، أمام المبدعين طريقان لا ثالث لهما، إما الهجرة إلى أرض الله الواسعة، أو البقاء وتحمل ما سيلاقونه، وبالنسبة لي فلم يتبق من العمر إلا ثمالة، وعندما كنت في ذروة الشباب تعرضت مع صحبي لظروف صعبة، تحملنا المعتقل والتعذيب والفصل من العمل، وكانت العروض تصلنا، مغرية، جاذبة، استجاب البعض وبقي آخرون في السفينة، وكنت من هؤلاء، ويعز عليّ الآن رؤية الوطن الذي عشنا فيه وأحببنا ثراه، ومشينا بحرص على ترابه لأن هذه الذرات ليست إلا ما تبقي من أجدادنا وآبائنا، ولسوف نصير إلى ما صاروا إليه، هذا الوطن يتغير ويتبدل، وتتهدم مؤسساته التي شيدت عبر آلاف السنين بأيدي أبنائه الذين أتوا بأناس لا يؤمنون بوجود الأوطان. حقاًّ، إننا جيل تعس الحظ، فلا يكفي ما عرفناه من صعاب، بل يشاء حظنا العاثر أن نرى نهايات الأشياء التي شكلت مجد هذا البلد.
لذلك لا أبالغ عندما أقول وداعاً لمصر التي عرفناها ونحن نتوجه إلى المجهول مع رئيس مرؤوس، هذا جديد في حكم مصر، كان الحاكم في مصر ذروة الهرم، لأول مرة نحكم برئيس له رئيسان، الأول حقيقي، بيده القوة المادية، والآخر روحي له الولاية والتوجيه فكيف يستقيم الحال، هذا مستحدث في مصر، ومن سمات الدولة البديلة التي تتقنع بالدين، والتي ستشهد من المفاسد ما يتضاءل إلي جانبه أشنع ما عرفناه، ولنا في واقعة الشيخ السلفي والفتاة الفقيرة مثالاً، أما الدول الثرية المحكومة بالشيوخ حولنا فما يجري فيها تقشعر له الأبدان، وفي السنوات الأخيرة بدأ الأدب السعودي الجريء يكشف عن أهوال وغرائب، فليقرأه من يشاء ليعرف إلى أي مصير نتجه؟
الأقليات والمؤسسات الأهم
ينتظر الأقباط وضعاً صعباً، كان المجتمع المصري أكثر عمقاً وإنسانية وتنوعاً عندما عاش فيه الأجانب إلى جوار المصريين، بل إننا خسرنا اليهود الذين خرجوا إلى بلدان العالم مضطرين نتيجة ضغوط غير مباشرة وليس قراراً بالطرد، بشر ولدوا في مصر ومعهم معتقداتهم، لا أحد يختار دينه عند الميلاد، بل يكون علي دين آبائه فما ذنبهم؟، لا نريد تكرار ذلك، أقول هذا لأن عملية هجرة واسعة تجري الآن من الأقباط، وبالتحديد إلى الولايات المتحدة وكندا، قالها علانية أحد السلفيين، الأقباط أكثر من عشرة ملايين، عددهم الفعلي لا يقل عن ذلك، وإن كانت الدقة مفقودة حتى في الاحصائيات الرسمية، سوف يهاجر منهم الأثرياء والقادرون.
لكن ما أرفضه أن يتحول مواطنون مصريون إلى الدرجة الثانية في ظل الدولة الدينية، لقد كانت الدولة الحديثة التي نودعها الآن تقوم علي المساواة حتى في أحط ظروفها، أحد قادة الاخوان والمفروض أنه من أفضل عناصرهم صرح منذ أيام أن النوبيين غزاة، وهذا خطير، يدعم حجج الانفصال لدي بعض المتطرفين، ويعمق الهوة، ويهين فصيلاً من أنقى وأعرق البشر في مكونات الشعب المصري الموحد منذ آلاف السنين، وهذا التصريح إنما يكشف عن العقلية العنصرية لدى قادة الاخوان.
من يتتبع جهود الإخوان في الشهور الماضية سيجد أنها كانت متجهة إلى مؤسستين رئيسيتين من مكونات الدولة، الداخلية ولهم معها ثأر، فهي الجهة المختصة بهم منذ تأسيس حسن البنا للجماعة عام ١٩٢٨، وتعتبر الأجهزة المختصة في الوزارة من أعرق أجهزة العالم خبرة بالاخوان، وقد تم تدمير أمن الدولة في ظروف غامضة، وهذا عمل خطير من سلبيات الأحداث ندفع ثمنه الآن ولا يعرف أحد على وجه الدقة من قام به، الجهاز المنحرف يمكن تقويمه، لكن تدميره يدخل في مفهوم الانتحار، الاخوان يسعون إلى الداخلية، وأجد متابعة وملاحظة قرارات المرشد وخيرت الشاطر عبر الرئيس الجديد، أما المؤسسة الرئيسية في سعي الاخوان لتبديل هوية الدولة فهو الجيش، للاخوان ميليشيات عسكرية منظمة، والسلاح الثقيل يتدفق على مصر عبر جبهة حدودية طولها ألف كيلو متر من الغرب حيث تتحكم الجماعات المستغلة للدين في ليبيا، وفي الجنوب يقوم نظام البشير الذي ضحى بالجنوب وقبل الانفصال للبقاء في السلطة، وفي سيناء تزداد الجماعات الأصولية الجهادية تمركزاً وتلك عون للاخوان، الأمل الحقيقي في الحفاظ على الدولة المصرية التي أسسها محمد علي، أعني ما تبقى منها هو الجيش، الجيش المصري هو الجيش العربي الوحيد الذي مازال متماسكاً قوياً، فهل يسعى الاخوان لمحاولة تقويضه من الداخل؟ لهذا حديث آخر لعلي أخوض فيه يوماً.
يبقى أمر، لقد فكرت قبل أن أبدأ هذه اليوميات الوداعية لمصر التي نعرفها قبل اتجاهنا إلي مصر أخرى مجهولة، لا يظهر من جبلها الغاطس إلا الرئيس المنتخب والشاطر ومن ورائهما المرشد، سألت نفسي، هل من اللياقة مقابلة الرئيس الجديد، أول رئيس مصري يختاره الشعب «الشعوب تخطئ في كثير من الأحيان» بمثل هذه اليوميات؟، أليس من المنطقي الصبر قليلاً حتى نرى الافعال، غير أن متابعة خطوات الاخوان في محاولاتهم السريعة لالتهام مؤسسات الدولة والسيطرة على مفاصلها، وكذلك حركة وأقوال الرئيس الجديد عندما كان مرشحاً، تجعل الأيام القادمة بادية الإشارات، واضحة العبارات، لذلك آثرت الصدق مع النفس ومع القراء، فعندما تتهدد الأوطان يكون الالتزام باللياقة نوعاً من الخيانة خاصة عندما نرى بأعيننا الوطن الذي نعرفه ماضياً إلى غروب مبين.
من ديوان الشعر العربي:
يقول المؤرخ الشيخ محمد أحمد بن اياس الحنفي المصري في قصيدة نظمها مع دخول الغازي السفاح سليم العثماني إلى مصر عام ٧١٥١ ميلادية:
نوحوا علي مصر لأمر قد جرى
من حادث عمت مصيبته الورى
قصيدة كاملة في كتابه ( بدائع الزهور في وقائع الدهور )

التعليقات