مصر الكبرى

02:33 مساءً EET

المرجعية النهائية للأزهر في المادة الثانية للدستور

الأيامُ دول … ودوام الحال من المحال وعجائب مصر لا تنفد ولا تنتهي ولا أحد يستطيع أن يزعم أن مصر لم تتغير بل تغيرت لكنها لم تتغير إلى الأفضل كثيرا.

سقط نظام ولم تسقط ثقافة ولقد كان واضحا لكل ذي عينين أن مصر عانت في ظل نظام مبارك من استبداد سياسي يتحالف كلما ضاقت به السبل مع الاستبداد الديني وكلاهما مارس القهر والقمع وكلاهما قام بالنفي والمصادرة وإن حرص الاثنان على أن يظهرا أمام الناس وكأنهما فصيلان مختلفان يعادي كل منهما الآخر وعلينا أن نتذكر كيف كانت النخبة المصرية تهب أيام نظام مبارك اعتراضا منها على أي مساحة كان يطمح الاستبداد الديني في اكتسابها كانت السيطرة للاستبداد السياسي لهذا كان الاختلاف معه قليلا وكان مغامرة غير مأمونة الجانب والآن استشعرت النخبة المصرية فيما يبدو أن الأيام هي أيام الدولة الدينية فالمناخ المصري كله من أوله إلى آخره سياسيا وثقافيا متشبع بتلك الروح الدينية بغض النظر عن أنها تتعلق بالشكل الظاهري والشكلي فقط فحزب الأغلبية حزب ديني والأغلبية من أعضاء مجلسي الشعب والشورى ينتمون للحزب الديني ورئيس الجمهورية نفسه منتمٍ لنفس الحزب بل مستقبل الصحافة المصرية مرهون برضا وموافقة اللجنة التي ينتمي كل أعضائها الآن لنفس الحزب ولا أحد ينكر أن ضيوف الفضائيات الآن كلهم أو أغلبهم من حزبي الحرية والعدالة والنور السلفي الأمر الذي شكل حالة من الاستسلام وربما كان اليأس عند كل النُخب المصرية المعنية بمدنية الدولة تلك النخب التي كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها أيام النظام السابق لو استشعرت أن هناك محاولة مجرد محاولة لتديين الدولة ولا يعني هذا موت تلك النخب تماما ولا انطفاء جذوتها لكنه يعني أن شيئا من الفتور والضعف قد شاب مجهوداتها وأنشطتها وليس أدل على ذلك من ردود الأفعال التي واكبت الإعلان عن انتهاء أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور من المادة الثانية واتفاقها على هذه الصيغة " الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع والأزهر الشريف هو المرجعية النهائية لتفسرها، ولأتباع المسيحية واليهودية الحق فى الاحتكام لشرائعهم الخاصة فى أحوالهم الشخصية وممارسة شئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية" حيث بدا الأمر وكأن هذه النخب قد ارتضت تلك الصيغة التي أعطت لمؤسسة الأزهر الحق في أن يكون مرجعية نهائية لمادة دستورية …! وكأننا نسينا أو تناسينا أن مؤسسة الأزهر كان لها نصيب من كثير من المعارك التي خاضها المثقفون من أجل حرية التعبير والإبداع والمعتقد. ويبدو أن الكثيرين لا يرون في هذه الصيغة خطرا من أن يتحول الأزهر لمؤسسة كهنوتية ما دام النص يشير بوضوح إلى أنه المرجعية النهائية رغم أنه في أساس تأسيسه وإنشائه كان مؤسسة علمية معنية بتطوير الفكر والديني من خلال علمائه الذين يشكلون مختلف التيارات والمذاهب . ولقد كان يحدث في الماضي القريب أن يعلن الأزهر عن رفضه لسيناريو فيلم أو يعلن رفضه لطبع كتاب … كان هذا يحدث كثيرا ولم يحدث قط أن استسلم أحد لقرار الأزهر أو لفتواه معتبرين أن رأيه مجر اجتهاد يقبل الخطأ ويقبل الصواب وكانت تدور مناقشات ومحاورات كثيرة لتفنيد رأي الأزهر وعلمائه أما الآن  وقد أصبح الأزهر المرجعية النهائية بنص الدستور فليس من رأي إلا رأي علمائه وليس من قرار إلا قراره علما بأن الأزهر ليس محكمة قضائية كما أن تاريخ الجهاد الثقافي والفكري مع مؤسسة الأزهر حافل بإثبات أن ممثليه ورجاله وعلمائه ما يزالون أسارى للثقافة الكلاسيكية العربية. ويبدو أن الخوف الذي كان مسيطرا على الجماعة الثقافية والتنويرية المصرية من حذف كلمة " مبادئ " والإبقاء على كلمة " الشريعة " وراء حالة الرضا التام لتلك الصيغة النهائية ويبدو الأمر وكأن التيارات السلفية لعبت دورها بمهارة في الأسابيع الماضية بعد أن ملأت الأجواء بشائعة الاتفاق على النص أن  أحكام الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع فأذاعت الخوف والرعب في نفوس المصريين لتفاجأهم في النهاية على الإبقاء على النص القديم وإضافة المرجعية النهائية لمؤسسة الأزهر ليبدو الأمر وكأن تلك التيارات السلفية استجابت لغالبية الشعب المصري بعد أن بدا الأمر للناس وكأن هناك صراعا بين الأزهر الوسطي والمعتدل والسلفيين والإخوان المتشددين لتقبل النخب الثقافية الصيغة التي تم الاتفاق عليها بين الأطراف جميعا. ولا تفسير عندي لحالة الهدوء أو اليأس أو الاستسلام لتلك الصيغة إلا الخوف من سيطرة المناخ الديني والثقافة الدينية خاصة وأنه لم يحدث لمادة من مواد الدستور أن أحيطت بكل تلك الأهمية مثل المادة الثانية والتي ربما لا يتذكر الكثيرون أنها كانت في دستور 1923 تحتل المادة رقم 149 فسبحان الله الذي جعلها بعد سنوات وسنوات تحتل المرتبة الثانية وكأن الشعب المصري في عشرينيات القرن المنصرم كان بعيدا عن الدين وكأن الأغلبية فيه لم تكن مسلمة لكنه السادات رحمه الله وغفر الله … بسبب قصته المعروفة مع التيارات الاشتراكية واليسارية فضلا عن الهزائم التي مُنيَ بها الشعب المصرية بل والأمة العربية بأسرها والتي لم تجد حلا ولا منصرفا عنها إلا باللجوء أو بالاعتقاد أن النصر والتقدم مرهونان باللجوء إلى الله وهو ما لن يتم إلا بتقديم هذه المادة إلى مرتبة أعلى في نصوص ومواد الدستور. والغريب أنه منذ تم هذا وحتى الآن اشتعلت الفتن والمعارك وتغولت التيارات الدينية وتأخر المصريون والعرب عن كل شعوب العالم وحتى لا يصطاد المغرضون في الماء الآسن لسنا ضد الدين ولا ضد التدين فنحن مؤمنون تماما أن النهضة والتقدم مرتبطان بالدين كمشروع حضاري وأخلاقي كما أننا مؤمنون بأن الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه ورددنا عشرات المرات أن الدولة ككيان اعتباري لا دين لها إنما الدين للناس وكنا نرى أن تهتم اللجنة التأسيسية بمواد الحريات وصلاحيات الرئيس والمجالس النيابية المنتخبة وأن توليها من الجهد والوقت والاهتمام ما توليه لهذه المادة الثانية التي استغرقت من الوقت ما لا نظن أنه سيتاح لغيرها من المواد فضلا عن أنها تمخضت أخيرا عن صيغة تحمل من الخطر ما تحمل ورغم كل هذا فإن أحدا لم يفتح فمه بكلمة واحدة …!

التعليقات