مصر الكبرى

09:21 مساءً EET

ليس دفاعاً عن عادل إمام

من البديهيات الراسخة والمعروفة ، أن الممثل لا يتحمل تبعات الشخصية التي يؤديها ، إنه يترجم النصوص بلغة التمثيل وطبقاً لتوجيهات المخرج الذي يحركه . والممثل الموهوب يستطيع التطابق مع ملامح الشخصية التي يجسدها ، فلا يمكن محاسبة أحمد زكي باعتباره الرئيس جمال عبد الناصر لأنه أدى شخصيته في فيلم < ناصر 56 > ولا يمكن أيضاً مع الممثل نفسه على إنه الرئيس الراحل أنور السادات لتأدية دوره وترجمة حياته على الشاشة في الفيلم الذي حمل عنوان < أيام السادات > .

ما نتحدث بديهيات لا تحتاج لشرح ، لكن هناك من يخلطون الخيال بالحقيقة ولا يعرفون الفرق بين فن التمثيل والوقائع التي ينقلها ، سواء على الشاشة أو على خشبة المسرح .الذين حاكموا عادل إمام يعرفون بالتأكيد الفرق بين الحقيقة والتمثيل ، لكن هناك موجة تتصاعد في مصر هدفها القضاء على فن عريق مستمر لأكثر من قرن في حضور مدهش على مر الاحقاب والسنوات .هناك الآن من يخطط لإطفاء أضواء الفن . وخطوتهم الأولى اتجهت إلى ممثل لامع ومشهور وله مكانة ويمتاز بعبقرية في الآداء جعلته يتربع على عرش نجيب الريحاني ويوسف وهبي وعمالقة التمثيل على الساحة المصرية .عادل إمام هو الممثل العملاق الراسخ منذ الستينيات بهذا التنوع والحضور والموهبة والهيمنة على مشاهدين يعشقون فنه ويحبونه مهما خرجت منه أحياناً بعض التصريحات السياسية غير الناضجة .رأي إمام السياسي لا يقلل من موهبته وفنه ولا يحاسب الرجل إلا برصيد أعماله الفنية الممتدة من خلال مئات الأفلام والمسرحيات والأعمال التليفزيونية . الفنان مدرسة متميزة احتضنت الانجازات السابقة عليه في عصر علي الكسار وإسماعيل ياسين وعبد المنعم إبراهيم وبالإضافة إلى مدرسة عبد المنعم مدبولي . وإنجازات الفنان هي سجل فخر له وللحياة المصرية ولأجيال تعاقبت كافحت من أجل رفع لواء الفن على أعلام التخلف والتزمت .لقد تابعت عادل إمام عندما حضر إلى دولة الإمارات عندما كنت أعمل بصحافتها ووجدت الآلاف يضحكون وهم في قاعة المعارض الضخمة بإمارة الشارقة التي احتشدت بجماهير غفيرة للاستمتاع برؤية الفنان المصري .وعندما كنت في تركيا أتجول في صحراء ديار بكر وصلت إلى منطقة فوق جبل مرتفع لمشاهدة بعض الآثار القديمة وعندما دخلت في أحد الأماكن الأثرية وإلتقيت الحارث الشاب هناك تحدثت معه ، وعندما عرف بإنني مصري سألني إن كنت أعرف عادل إمام ؟ . وإدعيت بالطبع انه صديقي ففرح جداً وطلب مني نقل محبته واعتزازه إلى الفنان المصري الرائع وشرح لي انه يتابع خلال جهاز تليفزيوني قديم في مكانه المنعزل بالصحراء أعمال إمام ومعجب بها جداً من خلال ترجمة إلى اللغة التركية .وعندما ذهبت إلى بلاد المغرب العربي وجدت الناس هناك تحب كل ما هو مصري ويضحكهم عادل إمام بشكل خاص ويعتزون بفنه الجميل ويفهمون العامية المصرية نتيجة بث أعماله على شاشة التليفزيون .وشاهدت عادل إمام في لندن عندما جاء مع فاروق الفيشاوي لتلبية دعوة جمعية عربية تحب فنه وترحب به وبأعماله المتنوعة . كان الإقبال عليه كبيراً من الجالية العربية المقيمة في لندن .الفن المصري هو سفير بلادنا في كل مكان ، وتحدث معي شُبان مغاربة بأنهم يتعلمون من الأفلام المصرية الكثير من المعارف عن الحياة والتقاليد والتاريخ نفسه . وإلتقيت فتيات لا يعرفن القراءة أو الكتابة ، لكن معلوماتهن العامة مثيرة للدهشة . وعندما سألتهن عن السبب قالوا إدمان مشاهدة الأفلام والمسلسلات المصرية .وهناك من يخطط الآن لنسف الفن المصري المستمر لأكثر من مائة عام ، عمر السينما المصرية . وقبل ذلك كانت هناك أعمال مبكرة للمسرح المصري مع جورج أبيض وعزيز عيد ويوسف وهبي وفاطمة اليوسف وأمينة رزق وعلوية جميل وفاخر فاخر ومئات من الممثلين شيدوا هذا الصرح العظيم من التألق الحضاري . إن قراءة تاريخ فاطمة رشدي وعزيزة أمير وأمينة محمد وعشرات الممثلات من أمينة رزق إلى فاتن حمامة ، ومن الأجيال التالية لهن ، حيث أسماء رائعة تحتل مكانتها في طابور الموهوبين خلال أجيال متعددة على رأسها إسعاد يونس .مسيرة الفن المصري رائعة ونفخر بها جميعاً . وقد أصبح للفن العيد السنوي المعبر عن تكريم المجتمع لفنانين ومنحهم التقدير لمسيرة العطاء والإبداع . والفن المصري يحمل كل السمات الرائعة من حديث عن قضايا اجتماعية ووطنية وتناول تراث مصر الرائع المعانق للتقدم في أعلى تجلياته . ويكفي مشاهدة أفلام يوسف شاهين وعز الدين ذوالفقار وكمال الشيخ وصلاح أبو سيف والأجيال الأخرى مثل علي بدرخان ومحمد خان والعشرات من الأسماء التي تصنع ملامح صناعة رائدة ورائعة .وخلال السنوات الأخيرة خصص معهد الفيلم البريطاني عدة أسابيع للسينما المصرية وخص صلاح أبو سيف ويوسف شاهين للاحتفاء بهم بالإضافة إلى أسماء شابة مثل يسري نصر الله وخالد الحجر ومجدي أحمد علي .الموجة الظلامية التي تحاول اجتياح مصر الآن تحاول اطفاء أدوار الفن والحكم على عادل إمام بالحبس مجرد طلقات للتخويف والترهيب وإختيار أشهر فنان لتكبيله بهذه الإدانة مع أن المطلوب هو تكريمه على مسيرة طويلة من الفن والعطاء والتمثيل والموهبة الفذة . إن السُذج من مشاهدي الأفلام المصرية كانوا يعتقدون أن الممثل محمود المليجي شرير في حياته اليومية وإنه من غلاة المجرمين وكانوا لا يصدقون الممثل عندما يتحدث بأنه رجل طيب ولا يمارس الشر على الإطلاق ولا يجرؤ على ذبح فرخة . ولأن المليجي كان يتقن أدوار الشر ، فكان عامة الناس يصفونه بشرير الشاشة ، لكن الناضجين يعلمون أن الفنان يُتقن مهنة التمثيل والتشخيص ولا علاقة لشخصه بهذه الأدوار في حياته العادية .ويبدو نتيجة لتراجع التعليم فقد صدق البعض أدوار عادل إمام وذهبوا إلى القضاء لمحاسبته على حوار وكلمات وانتزاعها من سياقها بهدف تجريمه وسجنه وتخويف الآخرين لغلق أبواب الفن بالضبة والمفتاح وهدم دور السينما والمسارح ، لأن الفن في عرف هؤلاء الناس حرام ولا يصح على الإطلاق ، كما يحدث في بلاد مظلمة تخاف من ضوء النهار الذي يأتي بالعلم والمعرفة ويفجره الفن ورياح الثقافة .مصر أيها السادة مختلفة ، فهي دولة مدنية منذ قرون ، وفنها يعبر عن حضارتها ورقي شعبها . ومحاولة تخويف الفنانين بسجن عادل إمام لن تفلح لأن أهل الفن وجماعة المثقفين والشعب نفسه سيدافعون ليس عن الفنان المتهم كذباً وزوراً ، وإنما بالتصدي لهذه الموجة القاسية والباطشة والتي تريد إغلاق النوافذ والأبواب وإطفاء الأنوار للاجهاز علينا وقتلنا بالإدعاء الدفاع عن الفضيلة أحياناً والدين مرة أخرى .محاكم التفتيش التي عرفتها العصور الوسطى تعود مرة أخرى في قرننا الحالي ، لكنني على قناعة بأن الظلام لن يمر . ونحن جميعاً نملك القدرة على مواجهة هذه الحملة الشرسة والدفاع عن ثوابت مرتبطة بنهضة بلادنا .الدفاع هو عن مصر وليس عادل إمام . ومهمة الكل من مثقفين وفنانين ومحبين لهذا الوطن التصدي بكل قوة والتعبير عن الرفض لتكبيل مصر التي ثارت على الاستبداد ، لان القضية مرتبطة بوجودنا وحياتنا في نهار الحضارة وليس في قلب ظلام التخلف والموت أيضاً .

التعليقات