مصر الكبرى

09:44 صباحًا EET

بين ثورة يوليو وحراك يناير

مضت الذكرى الستون لثورة 23 يوليو 1952 الذي قادها الزعيم الراحل الخالد جمال عبد الناصر. بعد حراك يناير 2011 يحلو للكثيرين أن يقرنوا بين ثورة يوليو و(حراك يناير)، باعتبار هذا الحراك يشكل ثورة جديدة، وأطلقوا على العهد الجديد’الجمهورية الثانية’. بالتأكيد ما حصل في يناير ليس بسيطاً، فهو حركة جماهيرية عفوية واسعة قامت احتجاجاً على تردي الأوضاع في مصر على مختلف الأصعدة، وكرهاً بالفساد، والتبعية السياسية للولايات المتحدة والتهاون مع إسرائيل، واحتجاجاً على سياسة توريث الابناء لمنصب الرئاسة، وعلى قضايا أخرى كثيرة غيرها. لكن ورغم كل إنجازات يناير لا يمكن إطلاق أو تسمية ما حصل(بالثورة) لا بالمعنى الضيق للكلمة، ولا بالمعنى الواسع أيضاً.

المعنى الضيق للثورة يعني:تغيير مطلق لشكل ومحتوى النظام القائم، (البائد) وإيجاد آلية جديدة : إن بالمعاني السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير آليات العمل السابقة، وبلورتها في مفاهيم اجتماعية مختلفة عن السابقة. كما في العادة: فإن الثورة لها قيادة منسجمة في إحداث التغيير وشكله.
وعلى الأقل:بينها قاسم مشترك للمفاهيم الاجتماعية الجديدة. وإذا كانت هذه القيادة منبثقة عن حزب معين، فإن ما سيسود من تطبيقات عملية ومفاهيم اجتماعية في العهد الجديد، سينطلق بالضرورة من أيديولوجية هذا الحزب، فثورة أكتوبر عام 1917 حملت تطبيقات ومفاهيم الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي، وفيما بعد جرت تسميته ‘بالحزب الشيوعي الروسي’ وفي حالة وجود قيادة للثورة من ذوي أيديولوجيات متعددة، فغالباً ما يصل هؤلاء إلى قواسم مشتركة فيما بينهم، حيث يسهل توحيد المفاهيم والتطبيقات في إطار وطني عريض، في غالبيته يحمل فكراً تقدمياً.
هذا بالضبط ما حدث بالنسبة لقيادة ثورة يوليو 1952 فالضباط الأحرار هم من فئة اجتماعية وأفكار ومفاهيم واحدة (ربما باستثناء محمد نجيب المتعاطف مع توجهات الإخوان المسلمين لكنه لم يكن عضواً في حزبهم). هذه المفاهيم والتطبيقات إما أن تكون مصاغة في برنامج، وهذا ما حدث في الثورة الروسية والكوبية وثورات أخرى كثيرة غيرهما.أما مجموعة التوجهات لبعض القيادات الثورية، قد لا تكون مكتوبة في برنامج محدد، لكنها تشكل في مضامينها وأشكالها خطاً تقدمياً ووطنياً.قيادة ثورة يوليو في بداياتها عانت تعارضاً فيما بينها. الأخوان المسلمون آنذاك حاولوا السيطرة على الثورة من خلال نجيب. لكن كافة الأعضاء الآخرين في مجلس قيادة الثورة ذوو توجهات وطنية عامة (ولربما يسارية لدى البعض مثل خالد محيي الدين)، لكن لم يكن هناك اختلاف على ما ستتخذه الثورة من إجراءات. لربما وجدت تعارضات فيما بينهم حتى إن وصلت إلى درجة التناقضات فإنها بقيت التناقضات الثانوية وليست التناحرية. وهكذا كان، غير أن مجموعة الخطوات التي اتخذتها الثورة شكلّت برنامجاً لعملها وذلك حتى وفاة الرئيس عبد الناصر في عام 1970.
بالنسبة لحراك يناير، فعملياً لم يكن منظماً، بل انطلق وظل لوقت قريب من استقالة مبارك، عفويا. الأحزاب المصرية بمختلف اتجاهاتها الوطنية والقومية اليسارية والليبرالية والدينية حاولت ركوب موجة هذا الحراك.
مدى تأثير الحزب على حركة الجماهير (الحراك) مرتبط بمدى انتشار الحزب في المجتمع. بالرغم من الأحزاب، حاول الشباب الثوري في مرحلة متأخرة: تشكيل قيادة، إلا أن هذه القيادة لم تستطع فرض نفسها على الحراك، فمعظمها شباب عفويين ضحلين في ممارسة السياسة ولا تجربة لهم، الأمر الذي ساعد الأحزاب على ركوب موجة الحراك، ولكن دون وجود قيادة موحدة منها للحراك، إلا من أمور وطنية عامة عليها اختلاف في الشكل والمضمون، وفقاً لفكر هذا الحزب أو ذاك ومنطلقاته الأيديولوجية بالضرورة. هذا الأمر سبب تعارضاً حتى في شكل الحركة الجماهيرية وشعاراتها، فكم من مرة اختلف الإخوان المسلمون مع الكثير من الأحزاب المصرية الأخرى: إن في تنظيم الحراك وموعده ومكانه، أو في الشعارات التي سيحملها.
فيما يتعلق بالمعنى العريض (الواسع) للثورة: فإن ثورة يوليو شكلت مرحلة جديدة ونقطة تحول في التاريخ المصري: من بلد تابع لمنظومة الاستعمار البريطاني إلى بلد حر، مستقل، يؤازر الشعوب العربية والإفريقية والأمريكية اللاتينية في تصفية بقايا الاستعمار من القارات الثلاث. مصادرة الأراضي من الإقطاعيين وتوزيعها على الفقراء، بما يعنيه ذلك من مفاهيم عدل مجتمعية جديدة، وعلاقات إنتاج مجتمعية جديدة أيضاً. جرى تأميم قناة السويس، وكان هناك الغزو البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي المشترك، وانتصرت فيه مصر. جرى إنشاء الوحدة مع سوريا، وتم بناء السد العالي وسادت مفاهيم جديدة: الحرية، الوطنية، تصفية الاستعمار، عدم الانحياز، ملكية الفقراء للأراضي، مجانية التعليم والصحة. ملكية الدولة للقطاع العام، الذي في يده تقع معظم وسائل الإنتاج، ارتفعت وتيرة العداء لإسرائيل، وتمت تصفية كافة آليات الدولة القديمة بما فيها الصحف والمجلات إن على صعيد الشكل أو المضمون، مروراً بالوسائل الإنتاجية، وصولاً إلى المفاهيم والمعتقدات والشعارات. جرى طرح شكل جديد للاشتراكية جرت تسميتها (بالاشتراكية العربية أوالإسلامية) وسادت مفاهيم وطنية قومية، وجرى ايلاء أهمية كبيرة لالتزامات مصر العروبية. ليس ذلك فحسب وإنما التزامات تجاه الشعوب الإفريقية والأخرى في أمريكا اللاتينية أيضاً. وتم مد الجسور مع الدول الاشتراكية ومع الاتحاد السوفييتي بشكل خاص، وغيرها من التغييرات الجذرية المجتمعية التي تجيز إطلاق مفهوم الثورة على ما قام به الضباط الأحرار في حركتهم في 23 يوليو 1952، بما يعنيه ذلك من طرد غالبية المؤثرين في مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية المصرية، بدءاً من الملك فاروق انتهاءاً برؤساء الإدارات المؤثرة في مصر.
على صعيد ثانٍ فإنه وابتداءاً من مجئ السادات في مصر ومن بعده خلفه حسني مبارك، جرت ردّة شديدة عن منجزات الثورة في كافة الميادين: تم إرجاع الإقطاعيين إلى أراضيهم. جرت خصخصة القطاع العام وبيع مؤسساته. تبعية مطلقة للولايات المتحدة وامتلاك أفضل العلاقات مع الدول الغربية. تم طرد الخبراء السوفيات والتابعين للدول الاشتراكية الأخرى. ارتفعت أسعار السلع بما فيها السلع الغذائية وكافة السلع الحياتية الأخرى. (قد يقول قائل من الطبيعي أن لا مقارنة في الأسعار بين الستينيات والسبعينيات، فمن الطبيعي أن ترتفع وفقاً لمضي السنوات. هذا من جانب صحيح غير أنه وفي السياسة الاقتصادية التي انتهجتها مصر مع مجئ السادات وخلفه إلى السلطة، تم تطبيق سياسة اقتصادية مصرية جديدة عنوانها: الاقتصاد الحر، أي الاقتصاد الرأسمالي، هذا أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء، وضاعت الطبقة الوسطى، فباستثناء القليلين الذين ارتفعوا منها، نزل معظمها إلى الفقر). من الطبيعي والحالة هذه أن تنتشر المحسوبية ويعم الفساد، ويزيد عجز الميزانية، وتزيد البطالة وتزيد مديونية الدولة للخارج … إلى آخر ذلك من مظاهر بعيدة عن مفاهيم العدالة الاجتماعية.
بالنسبة لحراك ثورة يناير، فباستثناء إزاحة مبارك وبعض وزرائه ظلت آلية الدولة بنفس أساسها السابق. المجلس العسكري المصري هو الذي قاد المرحلة الانتقالية، وهو ما زال مؤثراً في ظل الرئيس مرسي بعد انتخابه.
كما نشهد شبه سيطرة للإخوان المسلمين في السلطتين: التشريعية (مجلس النواب المنحل والشورى) والسلــــطة التنفيذية (الحكومة)، وجرى تكليف هشام قنديل بتشكيل الحكومة (معروف أنه إسلامي التوجه وليس من الإخوان). لقد خالف الإخوان المسلمون كل وعودهم السابق ومتوقع أن يسيروا في هذا النهج.جملة القول: أن هــــناك فارقاً كبيراً بين ثــــورة يوليو، وحراك 25 يناير، ومن اللاواقعــــية إطلاق كلمة ثورة على الحراك الأخير.

التعليقات