مصر الكبرى

07:12 صباحًا EET

الشبان في مواجهة المسنين بعد الربيع العربي

من أكثر المظاهر تجلياً، إنما أيضاً الأكثر غموضاً للثورة الشبابية في قلب الربيع العربي، أن تكون انتهت ببقاء مقاليد السلطة بمعظمها في يد النخب الأقدم عهداً، التي تعود إلى مرحلة ما قبل الثورة. ويعود الأمر جزئياً، وفقاً لما يكشفه الواقع اليومي، إلى استمرار نفوذ المسؤولين العسكريين والأمنيين الذين يحكمون ما يسمّى في أغلب الأحيان بالدولة العميقة. ولكن الأمر مرهون أيضاً إلى حد كبير بتداعيات ما عرّفه أخيراً خبير الديموغرافيا الفرنسي فيليب فارغ، المتخصص بالشرق الأوسط، والذي وضع كتابات لمعهد «بوركينغز» في العاصمة واشنطن، على أنه عملية تتضمن تغيّراً ديموغرافياً طويل الأمد وبالغ الأهمية، بدأت بتخفيض جذري لمعدلات الولادة العربية في معظم بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ابتداءً من منتصف ثمانينات القرن العشرين، ما يذكّر بتوجّهات كانت عرفتها أوروبا قبل عقود قليلة.

أما الأرقام فمذهلة فعلاً. وقد أشار فارغ إلى أنه على امتداد الـ 25 سنة الماضية، تراجعت معدلات الانجاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى 3.3 طفل لكل امرأة يزيد عمرها عن 15 عاماً، علماً أن تونس ولبنان يقعان في أدنى القائمة، مع ما يزيد بقليل عن طفلين، والمغرب وليبيا مع 2.4 إلى 2.7، ومصر والأردن وسورية مع 3 إلى 3.5 طفل. وتماماً كما في غربي أوروبا، قامت الأسباب الرئيسة على مزيج من التمدن المتزايد، والانتقال نحو اقتصادات الخدمات، وانتشار التعليم، وقد أدت كل هذه العوامل مع الوقت إلى تأخير سن الزواج ونتجت عنها رغبة في إنجاب عدد أقل من الأولاد، بسبب ارتفاع التكاليف، بعد أن نتج عن نهاية الطفرة النفطية في أواخر ثمانينات القرن العشرين تراجع حاد في قدرة كل دولة على توفير إعانات للمواد الغذائية وإيجارات وخدمات رعاية صحية، وأهم من هذا كله، تعليم مجاني.
ورافق هذا الانتقال ما أطلق عليه خبراء الديموغرافيا تسمية «تضخم فئة الشباب»، وهو زيادة هائلة في فئة الشبان العرب الذين تراوح أعمارهم بين 15 و35 عاماً، وقد تزايد عددهم من نحو 40 مليوناً في 1980، إلى أكثر من 90 مليوناً اليوم. فضلاً عن ذلك، ووفقاً لما أظهره فارغ، نمت هذه الأرقام بوتيرة أسرع بكثير من الموارد، وخصوصاً على صعيد الحصول على تعليم جيد وعلى وظائف في ما بعد، ما أدى إلى ظاهرة جديدة كلياً، تقوم على ازدياد معدلات البطالة في أوساط المتخرجين. وبنتيجة ذلك، باتت الغالبية الكبرى من العاطلين عن العمل في مصر، والأرجح في أماكن أخرى، ما دون سن الثلاثين، ومعظمهم تلقوا نوعاً من التحصيل العلمي، وقلة منهم فقط مارست يوماً وظيفة دائمة. وما زاد الأمور تعقيداً هو أن هؤلاء الشبان يؤمنون بصورة متزايدة بتفعيل دور المرأة، وبالحرية السياسية، وبحقهم كأفراد بعيش الحياة التي يريدونها.
وتقف في مواجهة صفوف الشبان طبقة رجال في سن أكبر بكثير كانوا المستفيدين الرئيسيين من النظام التعليمي بالصورة التي كان عليها ما بين أربعينات وستينات القرن الماضي، وبقيت قيمهم تستند إلى مفهوم السلطة الأبوية في المجتمع، حيث تُعتبر العائلة الوحدة الأساسية، وحيث تتقاعس الزوجات والأمهات، وإن كنّ متعلمات، عن البحث عن وظيفة خارج المنزل. ولا عجب في حصول تصادم أجيال واسع النطاق، كما ان من غير المستغرب ان الفوز بالحريات المؤقتة نتيجة الإطاحة المستمرة بحكام ديكتاتوريين قد سقط بسبب محافظة عدد كبير من الجنرالات والقضاة القدامى في مصر، ونظرائهم من قادة سياسيين ودينيين في تونس وأماكن أخرى على مواقعهم.
وبالنسبة إلى المستقبل، يشير فيليب فارغ إلى توافر عدد من التوجهات المتناقضة. فمن جهة، تبقى العقبات المانعة لتوظيف النساء قائمة، وخصوصاً المتزوجات منهن، لأن الأزواج يمنعونهن من الذهاب إلى العمل. وشرح أن هذا هو السبب المسؤول بصورة شبه تامة عن التدني الشديد لمستويات المشاركة الاقتصادية للمرأة في الشرق الأوسط، وهي لا تزيد أبداً عن 25 في المئة (كما في المغرب وتونس)، وتنتشر على نطاق أوسع نسبياً وتراوح بين 14 إلى 16 في المئة (في مصر وسورية والجزائر)، بالمقارنة مع معدل عالمي هو 55 في المئة. ومن جهة أخرى، يقوّض الميل نحو تأسيس أُسر تضم ولدين التسلسل الهرمي الذي كان شائعاً بين الإخوة، علماً أن ارتفاع مستويات التعلم في أوساط الفتيات يجعلهن أكثر ثقافةً من آبائهن، ويتنافسن بضراوة أكبر مع الذكور المتعلمين للحصول على وظائف. أما النتيجة بنظر فارغ، فهي أن الأسر تتحول إلى كيانات أقل تماسكاً، يطغى عليها العنصر الذكري، مع اتساع المجال لنظرة إلى الحياة تعتمد أكثر بكثير على الطابع الفردي داخل المنزل وخارجه.
إلى أين نتّجه إذن من هذا المنطلق؟ وما الذي يمكن فعله أصلاً امام تزايد مستويات الإحباط في أوساط عدد كبير جداً من الشبان في الشرق الأوسط؟ في إحدى المراحل، كان يتم تسليط الضوء على هجرة الشباب، إما إلى أوروبا، أو إلى البلدان النفطية، كالسعودية ودول الخليج. ولكننا نعرف أن هذا ما عاد خياراً مهماً، حتى لو كان عبور الحدود في أغلب الأحيان أسهل مما يفترضه معظم الناس، وفقاً لما يكشفه فارغ نفسه.
وفي ظل هذه الظروف، تصح ملاحظة فارغ أن الرد الفعلي الوحيد على تصادم الأجيال الحاصل يكمن في حقلي السياسة والاقتصاد، حيث أن من الضروري، كما نعرف كلنا، استحداث فرص عمل وبسرعة، ناهيك عن موقف صحيح آخر، وهو أن من الضروري إشراك الشبان في العملية السياسية، وليس كأعضاء في أحزابهم الشبابية الخاصة التي عجزت إلى حد كبير عن نيل دعم شعبي، وليس بصفتهم مراقِبين للاستطلاعات أو مساعدين لقادة يفوقونهم سناً بكثير، إنما كمرشحين فعليين.
وسيكون من المفيد أيضاً أن يتم تعيين وزراء في الحكومة يكون سنهم أصغر بكثير من رئيس مجلس الوزراء المصري الجديد هاشم قنديل، في سن الخمسين، والذي تم الترويج له على انه أصغر رجل يصل إلى منصب رفيع كهذا في مصر. إنه إيحاء مثير للشك، لأن القرن العشرين شهد رؤساء أصغر سناً، من بينهم جمال عبد الناصر بنفسه. لكن الفكرة الأوسع هي الارتقاء ببعض عناصر الجيل الأصغر إلى مراكز بارزة في السلطة، داخل الحكومة والإدارة على حد سواء، بالاستناد إلى طاقتهم وأفكارهم، وكمصدر لتشجيع الآخرين ممن ينتمون إلى جيلهم.
والفكرة الأخيرة هي مناشدة السلطات العسكرية والقضائية بالتقاعد في سن الستين أو الخامسة والستين ليكون ذلك بمثابة إشارة مناسبة للجيل التالي. ولكن في ظل الظروف الراهنة، يُعتبر هذا الأمر أقرب إلى الخيال من أن يكون اقتراحاً عملياً!

التعليقات