مصر الكبرى

10:33 صباحًا EET

مثقفون للبيع… الثورة المصرية والنخبة الرثة

 
في ظل ثنائية النظام ودولته العميقة من ناحية وتيارات الإسلام السياسي من ناحيةٍ أخرى (مع ما يجمع بينهما من تشابهٍ وتطابق في الانحيازات الاقتصادية-الاجتماعية) والتي تجسد ما آلت إليه حال الثورة المصرية من استعصاء، ولما شهدنا مرحلةً من ترهل هذه الثورة وتعثرها دون أن تحقق أهدافها الأساسية الأعمق…أمام مشروع ثورةٍ عظيمة كانت تؤذن بإعادة رسم الخريطة بتوازناتها السياسية الأقليمية والعالمية فإذا بها تتحلل إلى ‘مكلمة’ أو ‘مسطبة’ من فوضى الفضائيات حيث يطوف بها حفنةٌ من الوجوه التي باتت محفوظة وممجوجة يشبعون نهم الناس للمعرفة المشروعة والفهم بأحاديث وقصص غثها أكثر من سمينها ويندرج أغلبها تحت طائلة النميمة …إزاء بحث هذه الوجوه عن تأمين مساحةٍ شخصيةٍ على الساحة السياسية (أو زيادتها إن وُجدت) مما تسبب في تشوش قطاعاتٍ واسعة من الجمهور وسأمها وانصرافها في أحيان كثيرة خاصةً في ضوء تراكم الكلام والرؤى والتنظير دون أدنى تحسن ملموس على الارض في ظل الأزمات المتتالية من عينة أزمتي الكهرباء والماء…أمام خطر ‘أخونة الدول’ المتزايد ..أمام هذه الثورة المسروقة لا يملك أحدنا سوى أن يتساءل عن السبب ويبحث عن المسؤول، وإني لأرى أن أي تحليلٍ جاد كفيلٌ بأن يقود في النهاية إلى فساد النخبة وحداثة عهد وتشرذم التيارات المدنية التي كان من المفترض أن تتقدم الصفوف قتقوم بدور الطليعة لتغيير الثوري بكل ما تعنيه الكلمة من عملية طويلة تطال هيكل المجتمع بأسره وقد تستغرق سنين عدة.

ومن لطائف الأمور أنه بينما كنت أجتر هذه المشاعر من المرارة والغضب على ما آلت إليه حال الثورة وتقصير بعض النخبة تصادف أن شاهدت مقابلةً مع د مصطفى الفقي، أحد السياسيين المعروفين من عهد مبارك (وربما أحد عقول النظام على الرغم من محاولته التملص من ذلك)، والرجل على الرغم من كونه مثقفاً مرموقاً إلا أنه اختار أو آثر ألا يبتعد عن حضن النظام الدافئ، لذا فلا عجب في أن تجده الآن يقضي جُل وقته في الفضائيات دافعاً عن نفسه تهمة التداخل مع النظام حد التنظير له وسارداً الحكايات عن مدى معارضته الشريفة الشرسة لمبارك ونظامه من داخل النظام؛ المهم أنه حين سئل عن أحد الناشطين السياسيين الأكثر شهرةً ممن يدعون المعارضة ويسعون لزعامتها الآن (ولنسمه ‘س’ منعاً لذكر الإسم الأصلي) وعما إذا كان انضم في السابق فعلاً إلى لجنة السياسات سيئة السمعة فقد أكد هذه المعلومة، إلا أن الأطرف والأدعى للاهتمام من ذلك أنه في معرض سرده لتفاصيل ذلك الانتساب المشين للحزب الوطني أكد أن أحد الأساتذة ورؤساء الأقسام المشهورين في إحدى كليات الاقتصاد والعلوم السياسية ممن يزعمون الثورية الآن وينظرون للثورة كان قد زكى ‘س’ هذا إلى المهمة وفقاً لاتفاق’جنتلمان’ بين ذلك الأستاذ والحزب الوطني يرشح بمقتضاه الكوادر اللامعة والواعدة والموهوبة للالتحاق بالحزب والخدمة في صفوفه…وعلى الرغم من كون العارفين ببواطن الأمور في الوسط الثقافي والسياسي يرجحون أن يكون الفضل الأكبر في التحاق ‘س’ ذاك بلجنة السياسات كان أحد الوزراء، فإنه لجديرٌ بالذكر أن أياً من الاثنين، ‘س’ وأستاذه، لم يكذبا أو ينفيا الواقعة…
استوقفتني هذه الحكاية طويلاً…فالأمر لا يتعلق بمصطفى الفقي وما له من علاقةٍ لا تخفى مع النظام فحسب وإنما هناك أيضاً ذلك الأستاذ ورئيس القسم الذي يدعي الآن الثورية والشرف يقوم بدور ‘سمسار’ أو ‘كشاف ملاعب’ ليقتنص المتميزين من ذوي الكفاءة والموهبة ليطعم بهم وبقدراتهم الذهنية والعلمية والثقافية آلة الفساد وجهاز الدولة الصدئ القمعي، وكأنه يساهم في ضخ دماء شابة في جيفة نظامٍ عميلٍ وعفن فضلاً عن كونه متهالك؛ ليس ذلك فحسب وإنما هنالك ذلك ال’س’ الذي شعر، وفقاً لرواية مصطفى الفقي، أنه لن يحظى بمثل ما حقق زميلٌ له في لجنة السياسات من نجاح ونفوذ فترك الحزب، والذي نفى في لقاءٍ تلفزيوني احتمال وقوع انتفاضة أو ثورة في مصر قبل يوم الخامس والعشرين ببضعة أيام مبرراً ذلك بندرة الفساد في مصر مقارنةً بتونس(!!) وها هو الآن من أشهر أعلام الثورة وأعلى منظريها والمتحدثين في شأنها صوتاً ورئيس أو صاحب حزب وكاتب في صحيفة ونجم الفضائيات ولا يفوت فرصةً ليصدع رؤوسنا حديثاً عن ليبرالية ‘دعه يعمل دعه يمر’ (التي بات جلياً الآن فشلها المطبق بعد تجربة الليبراليين الجدد في الغرب…) في بلدٍ يكاد السواد الأعظم من شعبه أن يموت جوعاً، ولا يفوتني أن أذكر أنه انتُخب عضواً في مجلس الشعب المحكوم بعدم شرعيته…أما أستاذه فلا يقل عنه ظهوراً في الفضائيات بالإضافة إلى مقال أو اثنين ينشرهما أسبوعياً في أحد أوسع الصحف الخاصة انتشاراً وتأثيراً…
ثلاثة من حملة الدكتوراة؛ اثنان منهما فيما أعلم يقيناً حصلا عليها من الخارج…ثلاثة من صفوة عقول هذا الوطن وأرقاها تعليماً ممن درسوا السياسة بطريقة علمية بحيث لا يمكن أن نلتمس لهم عذراً من الجهل أو السذاجة وحسن النية اختاروا طواعيةً أن يصطفوا في خدمة هذا النظام المتخلف القمعي عوضاً عن المناداة بالتغيير الجاد وإسقاط النظام فلما أدركوا أن مباركاً ساقطٌ لا محالة أسرع اثنان منهما ‘يحجزان’ لهما مكاناً متقدماً في الجموع المنتفضة…إن هذه التفاصيل وأمثلة عديدة غيرها لتؤكد إشكاليةً عميقة تتسلط على قطاعاتٍ عديدة ممن يصُطلح على وصفهم ‘بالنخبة’ تنبع من علاقتهم بالسلطة والنظام، وإذ نتناول بالتحليل تكوينهم النفسي والذهني في ضوء مواقفهم نجد أنفسنا أمام ما أسميه ب’النخبة الرثة’…و النخبة الرثة هي تلك الفئة من المثقفين والمفكرين والإعلاميين والأكاديميين الذين يختارون دائماً وأبداً الاستجابة لإغراء النظام والوقوف وراءه والدفاع عنه لأنهم لا يطيقون بعداً عن دفئه ،أولئك الذين لا يؤمنون بشعوبهم ولا بقدراتها على الحركة والتغيير حتى ليستمد بعضهم احترامه لنفسه من تعاليه على العامة والالتذاذ من وصفهم بالغباء والجهل،أولئك الذين يؤمنون فقط بذواتهم ومصالحم الشخصية وما يسلط عليهم من اضواء، فهم لا يؤمنون حقاً بالثورة ولم يتحسبوها أو يسعوا للإعداد لها ولم يبشروا سوى ببرامج الإصلاح المتدرج في أحسن الأحوال… لقد اضطلع هؤلاء، وخاصةً بعض المنضويين منهم في أحزاب المعارضة المدجنة، طيلة ما يزيد عن الثلاثة عقود بإضــــفاء (أو على الأقل محاولة ذلك) غطاء من الشرعية وغلالة من الحداثة والديمقراطية الزائفة على نظامٍ شديد الانحطاط، و، وإذ طال عهد مبارك وفاضت أموال السعودية عمدوا إلى ترسيخ مفاهيم اللاجدوى وعبثية معارضة النظام وحتمية بقائه وانتصاره فــــي أي صدام، وليت شرهم توقف عند هذا الحد إذ عمدوا بعد انــــدلاع الثورة إلى تزييف الحقائق وخلط المفاهيم المتعلقة بمعنى الثورة وأهدافها وطبيعتها بما تعبر عنه من صراع، وفي حين لم يستطع البعض منهم تصور الحياة دون النظام الذي وقفوا أنفسهم على خدمته فأخذوا يتخبطون ويمالئون المجلس العسكري أسرع الآخرون الأوفر ذكاءً ومرونة يحاولون اقتناص ما يستطيعون من فرصٍ للظهور في الفضائيات والسطو على مجهود الشباب والشعب وتباروا في إنشاء أحزاب أجمعت على الاختلاف والتشرذم رغم تطابق الاتجاهات في أحيانٍ كثيرة وما ذلك إلا استجابة لرغبات الزعامة لدى العديد من وجوه تلك النخبة الرثة وعدم قبولها أو استعدادها للعمل الجماعي…لم ينجحوا في توفير قيادةً طليعية على الرغم من تحصيلهم الثقافي نظراً لعدم استعدادهم للثورة ولتحللٍ أصيل لديهم من الانتماء للطبقات الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية فيها بما يعنيه ذلك من التزام وأيضاً نتيجةً لذوبانهم التام في النظام لعقودٍ طويلة، ولعل ذلك يفسر تمكن الإخوان المسلمين الذين حرصوا وراهنوا على استقلال تنظيمهم المحكم من تقدم الصفوف وفرض نفسهم رغم تشابههم حد التتطابق مع النظام في أغلب المناحي، مع الأخذ بعين الاعتبار احتياج النظام لهم وعلاقته الطويلة المعقدة معهم.ولعلي لا ابالغ إذ أؤكد ان هذه النخبة الرثة في مصر لها مثيلاتها في كل البلدان العربية الشقيقة وتقوم بدورٍ مشابه مع اختلافات بسيطة.ختاماً، أود أن أؤكد أنني لا أعني مطلقاً أن كل المثقفين يندرجون في هذه الفئة، فهناك قطعاً رموزٌ شريفة تحملت الاضطهاد والاعتقال والتهميش، ولكنني أخص تلك الفئة التي تمثل امتداداً لفقهاء السلطان ممن روجوا لمفاهيم رثة وبالية رسخت وجود أنظمة القمع وأعلن تحفظي على وصفهم ب’النخبة’، تلك الكلمة التي تُعد مجاملةً لا يستحقونها وإنما جرى العرف بها.إذا كان لنا أن نتقدم فعلينا أن نحارب ونتخلص من الثقافة المنحطة التي وُلدت وتوورثت عبر عصور الطغيان…علينا أن نفضح هذه النخبة الرثة ونواجه زيفها في نفس الوقت الذي نسعى فيه لإعادة هيكلة المجتمع مؤمنين أن الثورة الحقيقية لا بد وأن تنعكس في المنظومة الفكرية للشعوب.
 

التعليقات