مصر الكبرى

07:24 مساءً EET

الحكومة أم «العسكرى» أم القضاء؟

بين تهوين وتهويل، ضاعت الحقيقة فى الأزمة التى انتهت إليها حتى الآن القضية المعروفة باسم التمويل الأجنبى، فأما التهوين فهو حصر الأزمة فى قرار إلغاء حظر سفر المتهمين الأجانب، وتحميل المسؤولية بالتالى لرئيس محكمة استئناف القاهرة والقاضى الذى اتخذ هذا القرار، وأما التهويل فهو القفز إلى أعلى وتحميل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المسؤولية كاملة غير منقوصة.

ولم يكن الميل إلى التهوين والتهويل محدوداً، بحيث يمكن اعتباره هامشا على متن البحث فى تحديد المسؤولية فى قضية تعرض الرأى العام لعملية تسخين شديد فيها قبل أن يُلقى عليه ماء بالغ البرودة. فبعد أن ظن المصريون أن دولتهم صارت نداً للقوة الأعظم فى العالم، وأنها تخوض «معركة العزة»، استيقظوا ذات صباح فوجدوا كرامتهم الوطنية مهدرة ومبعثرة.
وعندما يحدث ذلك لا يمكن تحميل المسؤولية على قاضيين أو أكثر، ولا يُعقل أيضاً وضعها على كاهل «المجلس العسكرى» الذى يعرف أكثر من غيره مغبة خلق أزمة حادة مع الولايات المتحدة فى قضية كان سهلاً إنهاؤها بقرار منع المنظمات الأمريكية والأوروبية من العمل وترحيل الأجانب الذين يديرونها، كما أن أياً من أعضاء «المجلس العسكرى» لم يتحدث فى هذه القضية أو عنها مدعياً بطولة زائفة أو باحثاً عن مجد وهمى.
والأكيد أن أعضاءه هم أكثر من يعرفون أن تغيير نمط العلاقات مع الولايات المتحدة يتطلب وضع خطة جدية لفك الارتباط الاقتصادى والعسكرى معها وبذل أقصى جهد لإيجاد بدائل مناسبة، وهذا هو ما فعلته تركيا مثلا قبل نحو ست سنوات عندما وجدت أن علاقاتها مع إسرائيل لا يمكن أن تستمر على النحو الذى كانت عليه، فوضعت خطة للاستغناء عن الأسلحة وقطع الغيار التى كانت تحصل عليها منها، وتدعيم علاقاتها الاقتصادية مع عدد متزايد من الدول العربية وفتح أسواق فيها. ولم يبدأ رئيس وزرائها أردوجان فى التصعيد إلا عندما تأكد من أنه لن يضطر إلى تراجع مهين، وبدا بالتالى فى نظر كثير من العرب بطلاً بالرغم من أنه ربما لم يسع إلى ذلك.
والحال أن القضية ليست شديدة التعقيد إلى الحد الذى يبرر الخلاف على تحديد المسؤولية فيها، أو يقدم تفسيراً مقنعاً لانفعال البعض فى مجلس الشعب وخارجه بسبب عدم توجيه الاتهام إلى «المجلس العسكرى»، أو عجز البعض الآخر عن وضع قرار إلغاء حظر سفر الأجانب فى سياقه الطبيعى، باعتباره مجرد نتيجة لأخطاء بل خطايا قادت إليه.
فالقضية واضحة منذ واقعة مداهمة مقار المنظمات المتهمة بطريقة لا تحدث إلا عند الهجوم على أوكار عصابات شديدة الخطر. وتتحمل الحكومتان الحالية والسابقة المسؤولية كاملة عن طريق إدارة القضية وتحويلها إلى أزمة، فقد فتح وزراء فى الحكومتين «مخزن» الغوغائية السياسية على مصراعيه، وقاموا بتسييس قضية منظمات تعمل دون ترخيص منذ سنوات طويلة، فى محاولة لشغل الرأى العام وإلهائه عن المشاكل التى عجزوا عن حلها، فضلا عن تشويه المجتمع المدنى المصرى بكل مكوناته ووصمه بالارتباط بمصالح أجنبية عموما واتهامه بالمشاركة فى نشر الفوضى وتقسيم مصر!!.
واقترن تسييس القضية بحملة مدهشة تنهل من خزعبلات الغوغائية السياسية من النوع الذى تلجأ إليه عادة سلطات عاجزة عن حل مشاكل بلادها، فتسعى إلى شغل الناس بمعارك مصنوعة أو تحاول استدرار شعبية زائفة عبر ادعاء بطولات وهمية ورفع شعارات مثل «مصر لن تركع أبداً»، ولذلك فرغم أن الحملة بدت فى ظاهرها ضد أمريكا ومخططاتها وأموالها، فقد كانت فى حقيقتها موجهة إلى الداخل، سعياً إلى استغفال شعب بكامله، لكنها ذهبت إلى أبعد مدى دون أى خطة لاحتواء أزمة مع واشنطن أخذت تتصاعد وصولاً إلى حافة الهاوية بغير أدنى استعداد لتجنب الانزلاق إليها، فكان أن وضعت الحكومة نفسها فى مأزق أدى إلى تراجع مهين يوجع كرامة أى دولة عندما تم السماح للأمريكيين المتهمين بالسفر على متن طائرة حطت فى مطار القاهرة فى انتظارهم قبيل نظر تظلمهم من قرار حظر السفر وإلغائه بطريقة أساءت إلى صورة القضاء.
ولذلك تتحمل الحكومة المسؤولية الكاملة عن هذه المهانة، وإذا كانت ثمة مسؤولية يتحملها المجلس العسكرى فهى أنه يرتاح إلى التعامل مع مثل هذا النوع من الحكومات مهما ارتكبت من أخطاء، وأنه ترك وزراء هو الذى يعينهم يلهون دون أن يستوعبوا معنى الوصول إلى حافة الهاوية فى مثل هذه الأزمة، ولم يتدخل فى وقت مبكر لمنعهم من التلاعب بمشاعر شعب يحلم بأن يرفع رأسه ويسترد كرامته.

نقلاً عن: المصري اليوم

التعليقات