مصر الكبرى

02:27 صباحًا EET

ثورة على الثورة

الثورة مثل الحبّ، لا تقبل خيانة. الخيانة تقتل فيها اندفاع الحلم الجميل، وتشدّها إلى تحت، إلى الواقع. وقد خنّا ثوراتنا مراراً، مع العسكر حيناً، ومع «الشبيحة» حيناً آخر، ومع التطرّف والعنصرية أحياناً. خنّاها واستفضنا، بضمير مرتاح وهانئ. ولم نبرح. شرّعنا أبوابنا للمتطفّلين والغرباء، «وسطاء الخير»، حتى باتت ثوراتنا مكتظّة جداً،

مثل زواج فاشل. وما زالت أبوابنا مفتوحة. ومثل إعصار أعمى، جرفت تلك الثورات معها كلّ شيء: الاستبداد والتسلّط والتعنّت، كما الكثير من حقوق المرأة وحقوق الإنسان والأقليات والحقّ في الاختلاف، على رغم التطمينات المستمرّة. ولم تستطع بعد إسكات بطن جائعة ولا تأمين رغيف إضافي. صارت رديفاً لخوف مستتر: تارة حرب أهلية ومجازر، وطوراً كوابيس تطرّف وعنصرية. وما عدنا، حتى في قرارة أنفسنا، نجرؤ على حلم، ولا على انتفاضة أو تغيير.
هبّت الثورات في عالمنا العربي من قلب الجوع. من لقمة العيش المقِلّة، والمغمّسة بالعرق والدم والذلّ. تغيّر النظام في اليمن، لكن طعم الجوع ما زال هو هو. كذلك لونه. وتقول المنظمات الدولية إن معدلات سوء التغذية في بعض المناطق اليمنية وصلت إلى نسب مقاربة لما هي عليه في مناطق في الصومال. وبلغة الأرقام، هناك 10 ملايين يمني لا يتوافر لهم الغذاء الكافي، بينهم 5 ملايين يحتاجون مساعدات عاجلة. ووفقاً لتقارير «يونيسيف»، الأطفال هم الضحية الأكثر تضرراً، خصوصاً في مناطق الساحل الغربي، حيث يعاني أكثر من 31 في المئة منهم أمراض سوء التغذية وغياب النمو الطبيعي، مع ما يترتّب عليها من تشوّهات وفقر دم، وقِصر في القامة وعجز عن مقاومة الأمراض. من هنا، ارتفاع معدلات الزواج المبكر أخيراً في شكل مخيف، إذ تعمد العائلات إلى تزويج بناتها في سن مبكرة لتخفيف وطأة الأزمة المعيشية، فتدفع الفتاة ثمن إشباع جوعها سجناً مؤبداً مليئاً بالخبز!
وإذ خلّف الديكتاتوريون لنا أزمات معيشية طاحنة، واقتصادات هشّة، وموارد متضائلة، لم يستطع حكام ما بعد الثورة أن يحقّقوا ما طمح إليه الثوار من لقمة شريفة، وحرية في التعبير، ومساواة في الحقوق والمواطنة، ونمو اقتصادي للجميع.
عقارب الساعة تدور، والوقت لا يرحم. في عصر بدا اكتشاف المريخ كاكتشاف مغارة في قرية نائية، وفي زمن وسائل الاتصال السريع، لا بل المتسارع، يمكن اختصار عقود من اندلاع الثورة الفرنسية إلى الجمهورية الثانية، في سنوات قليلة، قد لا تتعدى سنوات دورة انتخابية. ولن يكون على جيل اليوم انتظار أربعين سنة أخرى من القمع والاستبداد والفشل، قبل بدء ثورة على الثورة، وتصحيح المسار. كلّ شيء تغيّر، حتى قدرتنا على الصبر.
وتبدو التونسيات أكثر من نفد صبرهنّ في مرحلة ما بعد الثورة، خصوصاً مع مطالبتهنّ الأخيرة بسحب مشروع البند 28 في مشروع الدستور الجديد والذي يحدّ من حقوق المواطنة للمرأة، ويعتبرها «مكمّلة للرجل، لا مساوية له». ونظّمت الجمعيات النسائية التونسية احتجاجات ومسيرات لحماية حقوق المرأة المكرسة منذ عام 1956، والتي تساويها مع الرجل في الحقوق والواجبات، وتؤمن حضورها في مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية. تلك القوانين التي ألهمت نساء العالم العربي الحلم بواقع أفضل لأكثر من ستين سنة، وكانت البصيص في سنوات الظلام، كيف تصبح بعد الثورة، في دائرة الخطر؟ وهل شاركت نساء تونس في الثورة واستبسلن في دفاعهنّ عن الحريات ورفضهنّ الاستبداد والظلم، كي يدفعن الثمن عودة إلى وراء، خلف قضبان القمع والتهميش والانتظار؟
الخوف من الثورات وما بعدها، بات وراءنا. والثورة على الثورة مشروعة. الأبواب مفتوحة على الغد والحرية. الجدران العالية لا تحمي. القوانين المُحكمة لا تكبّل. كمّ الأفواه لا يُسكِت. العودة إلى وراء باتت مستحيلة. مسيرة المئة عام من الثورة، انطلقت. لكن الفارق أننا لسنا في القرن السابع عشر. إنه القرن الحادي والعشرون، والوقت ينزلق بسرعة ويتفلّت من قبضة الحاكم.

التعليقات