مصر الكبرى

08:40 صباحًا EET

الزيتونة: أزمة المؤسسة الدينية في تونس

في خضمّ بحث العقل في الفضاء الإسلامي عن اكتشاف سبل الانبعاث الحضاري، يجدر الالتفات للمؤسّسات العلمية، الدّينيّة منها بالأساس، في ما أنتجته وما تنتجه من وعي ورؤى ومفاهيم، وتمعّن مثلّث: المحتوى المعرفي والمنتِج المعرفي والخرّيج العلمي. ومن ثمّة تبيّن الدور الحضاري-المعرفي للمؤسّسة، في فضائها العائدة إليه بالنظر والمرتبطة به. سيكون اهتمامي بالجامعة الزيتونية في هذه الدّراسة لاعتبارين أساسيين: لما ربطتني من وشائج قربى واقتراب بالمؤسّسة، حيث لازمتها طيلة مراحل التكوين الجامعي بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؛ ولانشغالي بالظاهرة الدّينية في حقلها الإسلامي وفي مجالها العالمي الموسّع في علم الأديان. ولم يقتصر بحثي على تناول الزّيتونة في حدّ ذاتها بل تطلّع إلى ربط المؤسّسة بالصيرورة التاريخية التطوّرية العامة، لما شكّلته من آلة يُقاس عليها واقع حال عقل كتل بشرية بمجملها.

أولا: من أجل تقييم علمي لتاريخ الزّيتونةتُعدّ جامعة الزّيتونة في تونس من أعرق الفضاءات التعليمية في العالم الإسلامي، بالمعنى المؤسّسي الشّامل، استطاعت أن تحافظ على استمراريتها عبر القرون. بدءا ينسب تأسيس الجامع إلى حسّان بن النّعمان الغسّاني، فاتح تونس وقرطاج سنة 79هـ (698-699م). كذلك هناك من يذهب إلى أن تأسيس الجامع تم في عهد عبد الله بن الحبحاب، الذي سمّاه هشام بن عبد الملك واليا على إفريقية سنة 110هـ (728-729م)، وقيل أيضا سنة 116هـ الموافقة لـ734م. كما تم توسيع الجامع في عهد زيادة بن الأغلب، عندما تولى إمارة القيروان. وأرجّح أنّ هذه الاختلافات التّاريخية متعلّقة بتحديد أزمنة تطورّات التوسيع التي شهدها الجامع في عهوده الأولى، وليس لها صلة بزمن التأسيس الأوّل.
وبرغم التجذّر التاريخي لهذا الجامع-الجامعة، وثراء التجربة التعليمية وعراقتها، فلا تزال المؤسّسة تمثّل تجلّيا ظاهرا ومكثّفا لاشتغال العقل الإسلامي ولأزمته العميقة. فمبادرات الإصلاح التربويّة والتعليمية للمؤسّسة متكرّرة ومتعدّدة، ومن المحاولات التي جرت في القرنين الأخيرين نذكر مثلا ما تمّ في 1842م وفي 1862م وفي 1875م وفي 1910م وفي 1950م وفي 1987م.
ونظرا إلى حساسية موضوع الزّيتونة المتشابك مع السّياسي في جلّ مراحله، نجد جلّ الدارسين والمؤرّخين غالبا ما حادوا عن التطرّق العلمي الموضوعي في تقييم العقل النّظري الذي قامت عليه المؤسّسة، الأمر الذي منع بلوغ موازنة موضوعية لدورها الحضاري. ولذلك يلحظ المتتبّع للكتابات المتناولة للزّيتونة، هيمنة الخطاب الفخري والتمجيدي عليها، وافتقَاد، لحدّ الآن، المقاربة الموضوعية للتاريخ الحضاري لها، التي تفرز الدّور التحصيني الحمائي للهوية -وهو غال على الشّعور الإسلامي، خصوصا أثناء الاقتحام الاستعماري-، عن الأثر السّكوني السّلبي للنمط التعليمي لهذه الجامعة. وهو ما ينبغي إجلاؤه بكلّ صرامة، حتى لا ننساق مع الخطاب التمجيدي العفوي أو المداهن. فقد رأى العديد في الزّيتونة حصنا منيعا ضدّ الفرنسة وضدّ الأنجلة وضدّ التغريب، والرأي على حقّ وليس في مطلقه، بما أُغفل في خضمّ ذكر هذا الدور الدّفاعي، عن تناول الوظيفة الجوهرية لهذه المؤسّسة العلمية، المتمثّلة أساسا في الإجلاء الصيروري للعقل الإسلامي في أعلى تجلّياته المعرفية وأرقاها، فهل حملت المؤسّسة هذا الدّور وهل وفّقت فيه؟***لقد اشترك العديد من الكتّاب التونسيين، الزّيتونيين وغير الزيتونيين، وبكافة تلوّناتهم وخلفياتهم، في النّظرة التمجيدية للزّيتونة، كما قابلتها نظرة بكائية لمآلاتها، خلت فيها مقارباتهم من تمعّن البضاعة الفكرية التي كان يقدّمها وينتجها هذا المعقل العلمي، والتي تناقضت في العديد من الأحيان مع روح التحرّر في الإسلام. وعلى سبيل الذّكر يمكن الحديث هنا عمّا لاقته أطروحات الزّيتونيين، المصلح الطّاهر الحدّاد(1899-1935م)، بشأن تحرير المرأة؛ والشّيخ عبد العزيز الثعالبي(1876-1944م) بشأن الانتقاد للسّائد الاجتماعي والفكري. لقد كان الثّنائي وفيين للفكر الإسلامي الأصيل في زمن سيطر فيه الفكر الخامل، فعدّت أصالتهما ابتداعا سيّئا بين شرائح سلطوية زيتونية عديدة.وداخل هذا المسار يتفسَّر، برغم حضور الزّيتونة كهيكل ذي وظيفة علمية دينية مختزن لقداسة عالية، أنها ما فتئت فعلا، دون مستوى المشاركة الحضارية المنشودة. ولا يزال تراجع العقل الإسلامي، المتجلّي عبر كيفيات النّظر، ينذر حتى اليوم بفجائع أليمة، ما تواصل الأمر على حاله. إذ الجلي أن الإطار الذي تحكّم بالزّيتونة، حافظ في جلّ مسيرته على مضادة إرادات التحوّل الحضارية، سواء في ما سبق منه تجربة الإصلاح المنطلقة مع خير الدّين التونسي أو في ما لحقها. ولذلك حتى الزّيتونيين الذين نادوا بإصلاح الجامعة، والذين تطلّعوا من ورائه إلى إصلاح مجتمعات الغرب الإسلامي، أو أمّة إسلامية على اتساعها، عادة ما عبّروا عن انسلاخ فكري عن خطّ تسافلي عام مهيمن، وما مثّلوا العمق القائمة عليه الزّيتونة. وضمن هذا السياق يتفسّر عجز الشقّ الزيتوني -ونعني به هنا خرّيجي القطر التّونسي أساسا-، برغم كثرتهم العددية، مقارنة بالمنحدرين من التكوين الحديث الفرنسي، على القدرة على توجيه نتائج تحرّر البلاد نحو مسارهم، أو المساهمة الفاعلة في قيادتها، على إثر الاستقلال. إذ وجد الزّيتونيون أنفسهم خارج سياق الفعل الحضاري وهم لا يدرون، وغالبا ما فسّروا الأمر بالمؤامرة الفرنكفونية العَلمانية، وقنعوا بما كتب الله لهم!.
وينبغي ألاّ يُخفي البعد العروبي والدّيني المتأجّج بين الزّيتونيين الأزمة الحقيقية للمؤسّسة. فمثلا مرامي القائمين على الزّيتونة في العهد الاستعماري الفرنسي، لتمديد الأثر الفعلي للمؤسّسة حتى يشمل كافة تراب الإيالة التونسية وما جاورها، وقد امتد فعلا حتى قسنطينة ومدينة الجزائر، أملا في المحافظة على الهوية العربسلامية في الغرب الإسلامي. فإن الأمر في دلالته الأخرى لم يحدّ من التجاء -حتى أبناء الطبقات الشعبية عصرئذ- إلى المدارس الفرنسية، لاقتناعهم وتقديرهم اغتراب التعليم الزيتوني، الذي لم توقظه نداءات وانتفاضات طلابية عديدة ملحّة لإصلاحه.
فجيل الزّيتونيين قبل الاستقلال كان يعوزه التنبّه الحضاري، وهو ما لا يمكن التستّر عليه بادّعاءات الدّفاع عن العروبة والإسلام، أو الوصاية عليهما. من هذا الباب كان خيار تونس الحديثة، متعذّر التعايش مع عقل زيتوني ضاقت عليه مقاصد الشّريعة بما رحبت. وبالتالي، لا نجاري أطروحة الأستاذ محمود عبد المولى في كتابه: ‘الجامعة الزيتونية والمجتمع التونسي’، في الرّغبة في حشر الجامعة التونسية مع فجر الاستقلال تحت جناح الجامعة الزّيتونية. والأحرى والواقع أن يواكب العقل الزّيتوني الحداثة لا أن تنحشر محاولات التّحديث تحته، فليس كلّ من تخفّى وراء الدّين شعارا أو العروبة علما، دون الاقتدار الأصيل على ترجمتهما حضاريا، انتهج الصواب أو مثّل إرادة التاريخ الحرّة . فما أتاهَ الزّيتونيين في العديد من المناسبات، هو موالاتهم ومشايعتهم التوجّهات التي تعارض التحديث، والنّظر إلى أهله بمظنّة السّوء المسبق والبدعة، والذي كان جرّاء غياب النّظر لتطوير البلاد بعين مقاصد الإسلام وفلسفته التطوّرية، واعتماد ما هو سائد تقليديا، وما دأب عليه الناس عُرْفيا. ومن هنا حصل التناقض الخطير مع مشاريع التحديث، التي سيعتبرهم روادها لاحقا العقبة الكؤود أمام التقدّم، وستوسّع كتلة العزل المناوئة لهم. فكيف لتونس المتطلّعة إلى التحرّر أن تصغي إلى عقل ديني خامل، بقيت آثاره ومخلّفاته حتى اليوم، فمثلا حتى السّنوات القريبة 86-87، كانت الدّراسة الفقهية في مستواها الجامعي داخل الزّيتونة محكومة بالفصل بين الإناث والذكور، لما في الأمر بحسب تقدير الشيوخ، من معالجة مسائل فقهية تلامس المناطق الجنسية المكهربة: الحيض، والنّفاس، وتعريفات الزنى، وما يتطلّبه من توضيحات، تفسّر بكونها مدعاة لتحرّشات جنسية بين الطلاب!!***فجرّاء ذلك التمازج بين الدّور والمقصد الذي حكم تاريخية المؤسّسة، سقطت أغلب الدّراسات التي تناولت الزّيتونة في الفخر، وما استطاعت أن تميّز بين التقدير والرّمزية من ناحية، والتقييم الحضاري الموضوعي للمؤسّسة. مما صدّ عديد الباحثين عن ولوج منافذ الوعي بمكوّنات العقل الدّيني الذي لازم تاريخية هذه المؤسّسة، مانعا إياهم عن التفطّن للتجلّيات الخاطئة للعقل الإسلامي. وما جرّ الزّيتونة للتخلّي، في أحقاب تاريخية مختلفة، عن خطّها الجوهري، وانجذابها إلى رهانات محافظة تقليدية، حادت بها عن دورها ورسالتها. إذ مطلب الاتّزان بين الالتزام الاجتماعي والدّور العقلي، الذي كان مفتقدا، أتاهها في الاجتماعي.وبطبيعة تشابك الزّيتونة مع البنية الحضارية الشّاملة للعالم الإسلامي، فقد وُجدت المؤسّسة -بفعل تراجع العقل الإسلامي الأكاديمي، جراء عدم استجابة المعرفة للحظتها التاريخية- داخل أزمة شاملة بنيوية ضربت العالم الإسلامي، شملت عديد المؤسّسات العلمية من فاس إلى نيسابور، تجلّت في اجتياح وقضم أطرافه. كانت الأندلس وصقلّية أبرزها في السّابق، وفلسطين في التاريخ الحاضر. فكانت أن مثّلت الثّغور المتقدّمة، والتي منها مجال الزّيتونة -في ظلّ هيمنة المزيج العرفاني اللاّعقلي، الذي وُكِّل له أمر العقل الحضاري- مرتعا للغزو المنفلت والمتنوّع، الصّليبي والإسباني في البداية، والفرنسي لاحقا. فلو كانت المعرفة الصّائبة وفيّة لشروطها الموضوعية، أَوَكان لسنابك خيول الإسبان أن تدوس على شروحات وحواشي المؤلّفات المغتربة، التي تعبّئ خزائن جامع الزّيتونة؟ والفاكرة المغتربة تظنّها منتهى مقاصد العلوم والمعارف، حتى تتحوّل الزّيتونة إلى إسطبل لخيولهم. الحادثة جلية، التي جرت مع سنة 970هـ، والتي يصفها الوزير السّراج بقوله: ‘وقسمت المدينة -تونس- مؤمن وكافر، وأُهين المسجد الأعظم ونُهبت خزائن الكتب الّتي كانت به، وداستها الكفرة بالأرجل وألقيت تصانيف الدّين بالأزقّة تدوسها حوافر الخيل والرّجال؛ حتّى قيل إنّ أزقّة الطّيبيّين كانت كلّها مجلّدات ملقاة تحت الأرجل. وضُربت النّواقيس وربطوا الخيل بالجامع الأعظم، ونُبش قبر الشيخ سيّدي محرز بن خلف فلم يجدوا به إلاّ الرّمل، وبالجملة فعلوا ما تفعله الأعادي بأعدائها وكانت كلّ دار مسلم يجاورها نصرانيّ’ . كشفت تلك الأحداث بعمق عن أزمة النّظر الفكري عصرئذ، العاجز عن تهيئة وصنع قوة حضارية، فضلا عن بقائه مضادا لأي ابتداع واستنارة.
ولا نقول إن تلك المضادات الحضارية قد زالت في أيامنا، بل حافظت على بقائها وفاعليتها متستّرة، فحتى تاريخ قريب، في سنة 1904م، وحالما بدأ رشيد رضا في إصدار مجلّة ‘المنار’ في مصر، مناديا فيها بإصلاحات محتشمة، اجتمع ‘علماء الزّيتونة’، وحرّروا عريضة أرسلوها إلى الحكومة ‘التونسية’ آنذاك، أي في الحقيقة إلى السّلطات الاستعمارية الفرنسية، يطالبونها بمنع توزيع المجلّة في الإيالة التونسية، زاعمين أنها تهاجم الأولياء الصالحين، وتنادي بفتح باب الاجتهاد من جديد، بما تعبّر عنه من أفكار، مختلفة عن تلك التي وردت في المذاهب الأربعة. وقد اكتوى بنار تلك الاتهامات أبناء الزّيتونة ذاتهم، فمحمّد شاكر الصفاقسي، اجتمع المجلس الشّرعي لأجله سنة 1902م، وطالب بعزله وسحب شهادته العلمية لمشايعته فكر محمّد عبده وسعيه في ترويجه.ولذلك ينبغي في خضمّ الرؤى الهشّة السّائدة، عند مراجعة الأثر التاريخي للمؤسسات العلمية الإسلامية، التفطّن للدور التعطيلي السلبي للقائمين على هذه المؤسسات، والذي منع في العديد من المناسبات الانطلاقة الطبيعية للعالم الإسلامي. بما مثّلته تلك الأطراف في عديد الأحقاب التاريخية من سدّ تتحطّم عليه وتختنق فيه براعم التحوّلات الحضارية، التي تبشّر بانطلاقة حداثية. فمثلا مبادرات تحرير المرأة كان انطلاقها أساسا من الخارجين عن الخطّ العام للأزهر والزّيتونة، باجتراحهم مناهج مستجدّة في رؤية المقاصد العليا للإسلام، نجد الأمر، مع قاسم أمين، الأزهري المفصول، ومع الطّاهر الحدّاد، الزيتوني المعزول.
إذ ما كان العقل الزيتوني قادرا على ضبط وعيه التاريخي في العديد من المناسبات، وعجز عن استيعاب المعطى التّشريعي من النصّ القرآني، باتجاه البحث عن توسيعه وإثرائه باجتراح المقصد البشري. فكان أن ساهم الممسكون بمقدّرات الأمور في هذه الجامعة في كبح التحوّلات الحضارية، جاذبين كتلا اجتماعية إلى الخلف باسم الدّين والمحافظة على قيمه، وصُوّرت مطالب الإصلاحات وبوادر العقلنة بكونها نفيا للدّيني وهدما لأركان الإسلام. مما جعل مجمل مساعي إصلاح الزّيتونة، لا سيما منها إبان القرنين الأخيرين، رفعا للسّقف دون عمد، بما توفرت من رغبة في النّهضة وما افتقدت إليه من أسس عقلية وعلمية للتحرّر.
 
ثانيا: الإصلاحات والفلسفة التطوّرية الغائبةالجلي أن مطالب الإصلاحات قد لازمت تاريخ الزّيتونة، ولكن لم تُبلور بشأنها فلسفة للإصلاح، تخلّف تحوّلا وتطوّرا مستمرّين. ولذلك تعدّدت دعوات الإصلاح دون أثر، لما وعى به العديد العملية خطأ، كونها حلّة خارجية ترتديها المؤسّسة. في حين يتمثّل الإصلاح الحقيقي في ما ينبغي أن تقوم عليه من منهج عقلي تفكيكي، وأساس ديني إنساني منفتح مندسّين في البرمجة. والملاحظ في مسار طروحات الإصلاح تلك، أن طلاّب الجامعة كانوا أكثر استشعارا لضرورته من المشرفين، وهو أمر عجزت هياكل الإشراف عن ترجمته إلى فلسفة تربوية علمية تطوّرية، لتناقض نتائج العملية آجلا مع أصولهم الأرستقراطية أو مع أهدافهم النّفعية الآنية. فممّا تجدر ملاحظته عبر تاريخ الزّيتونة ارتباطها في مستوى التسيير، بطبقة أرستقراطية، تشكّلت أساسا من البيارمة بطبقاتهم، الأولى والثانية والثّالثة والرّابعة والخامسة، وآل جعيّط، وبن عاشور، وبن مراد، والنّيفر، وبلخوجة. ولطالما أُبعدت الكفاءات العلمية الشّعبية، المنحدرة من العامّة عن مراكز النفوذ في هذه الجامعة، ناعتة إياهم الأرستقراطية بازدراء واحتقار بـ’الآفاقيين’، كون العامة ليس مسموحا لها بالتقدّم إلاّ في ثلاث: ‘إن ساروا ليلا أو خاضوا سيلا أو واجهوا خيلا’، على حدّ تعبير صاحب ‘تحفة الوزراء’ المجهول المؤلِّف.
فممّا أورده الأستاذ محمود عبد المولى، أن الحكومة التونسية في ظل الحماية الفرنسية، قرّرت سنة 1950م توسيع الجامعة وإجراء مناظرة لانتداب ثمانين مدرّسا، فهرع ثلاثة مدرسين من النيافرة لمقابلة الوزير الأول، وإيغال صدره بتدني كفاءة أصحاب الشّهائد الجدد، علما أن المناصب العليا في الزّيتونة حتى ذلك التاريخ، كانت حكرا وراثيا على العائلات الكبرى . وقد وجدت تلك الدّونية سندا ببثّ فهومات خاطئة عن مدلول بعض الآيات القرآنية، وردت في معرض ذكرها انتقادات للأعراب، قادت للحكم الرّائج والخاطئ ‘لا يؤمّ الأعرابي وإن كان أقرأهم’، وسحِبت تلك التأويلات على كلّ من لا ينتمي لدم تلك العائلات.
ومما هو ثابت، أن هذه الطبقات الأرستقراطية ما كانت لتراهن على مصالحها النّفعية المرتبطة بنظم هيمنة سائدة، وإن تغيرت من حين إلى آخر. ولذلك ما كان لها أن تطرح أو تتبنّى رؤى تحوّلية جذرية. فمثلا مع بداية القرن السّالف، سنة 1910، قام طلبة جامع الزّيتونة، وعلى رأسهم الطّالب إبراهيم شعبان، بتحرير مكتوب يتضمّن نداءات بإصلاح التعليم وتعصيره، مع مطالبة بتحسين الإقامة بمدارس سكنى الطلبة. وألحّوا على مطالبهم عبر الضغط بإضراب دام عدة أشهر، اضطرت الحكومة على إثره لإحداث لجنة لإصلاح التعليم الزيتوني ولكن أعمالها لم تأت بنتيجة ، لما لاقته المطالب من معارضة شديدة من طرف الشيوخ، الذين رفعوا أمامهم شعار ‘ما ترك الأوّل للآخر من شيء للإضافة والتجديد’. الأمر الذي دفع بدعوات النّهضة الإصلاحية في تونس إلى هجران الزّيتونة، لما للممسكين بها من قوّة نافذة، ومثّل أبناء الزّيتونة التحرّريون منشقّين في منظور القابضين على مقاليد الأمور، فعملوا على حصرهم وتشويههم بشتىّ السبل.
فلما نشر الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي كتابه: ‘روح التحرّر في القرآن’ سنة 1905، مناديا فيه بتعليم البنات والتخلّي عن عزلهنّ في البيوت، تضاربت الآراء بشأنه. إذ استقبله الصّادقيون -الشقّ المجدَّد في التعليم التونسي عصرئذ- بحماس مشيدين ومنوّهين به، في حين واجهه المدرسيّون بمعارضة واستنكار شديدين. بلغت أوجها بتدبير محاكمة واهية له وتقديمه للقضاء، كان ردّه فيها: ‘إن الأفكار التي اعتنقُها والآراء التي أدعو إليها لا تتعارض البتّة مع التعاليم الدّينيّة، وغاية ما في الأمر أنها تريد تخليص الدّين الإسلامي من جميع ما علق به، نتيجة الجهل والتزمّت وإغراءات الثروة. وذلك لأجل أن نعيد إليه صفاءه الأوّل الذي كان مصدر قوته’.
ولعلّ محنة الثعالبي وغيره، مع الأوساط التقليدية، متمثّلة في كون استهلاك المعرفة الدّينية في شكلها العرفاني الاتباعي، الذي سنشير إلى بعض مولّداته لاحقا، لا يترك للإنسان مقدرة للوعي الصّائب بمقوّمات المجتمع وبأواليات حراكه. لذلك طالما أمدّت المعرفة الدّينية غير الأصيلة العديدَ برؤى تنحو نحو الاغتراب، وتتناقض مع الصّلاح الجماعي، يوازي التقديرات الخاطئة لإحدى القبائل العربية الجاهلية، التي أرسل لها النبي محمّد (ص) رسالة يحظّها فيها على قبول الدين الجديد، لما فيه خير لها، فأهمل كبراؤها الرّسالة ورقّعوا بها دلْوهم.فمالم تكن المعرفة ملتزمة بالنقد والتّمحيص العقلي من جانب، ومتيقّظة ووفية لتبدلات الاجتماع البشري واحتياجاته من جانب آخر، فإنها تغدو مهدّدة بالتحوّل إلى فلسفة إماتة للمجتمع. لعلّ المعرفة الإسلامية التي سادت في عصور الانحطاط والتي تخلّت عن هذين الشّرطين السّالفين، العقلي والاجتماعي، كانت مما شايع فلسفة الموات لا فلسفة الحياة، وهو ما يبرّر نعتها بالتنكّر للأسس الجوهرية للمعرفة الإسلامية.فمع مطلع خمسينيات القرن الماضي، عشية المطالبة بالاستقلال اُستعيد موضوع الإصلاح، وكان بضغط طلاّبي أيضا، لما يمثّلونه من دور البروليتاريا الدّينية القلقة. نادت بذلك ‘لجنة الطّالب الزّيتوني’، التي سعت في ضبط برنامج تفصيلي، سمّته بالدّستور الزّيتوني الجامع، وهو ملخّص لستّة عشر مطلبا، يمكن تلخيصها في ما يلي: تنظير الشّهادات الزّيتونية، تعريب المناظرات الإدارية، التوسّع في العلوم العصريّة، إدخال اللّغات الأجنبية، إرساء التخصّصات، تمكين الزّيتونيين من الدّراسة بالخارج، الزّيادة في عدد المدرّسين، إجبارية التقاعد للأساتذة البالغين سنّ افتقاد المقدرة، جلب أساتذة مختصّين للتدريس وفتح آفاق الشّغل أمام حاملي الشّهادات الزيتونية . وهي مطالب محورية تكرّرت النّداءات بشأنها في العديد من المناسبات.
وتكاد تكون نفس المطالب المذكورة متكرّرة، قبل حصول ما سمي بتغيير السّابع من نوفمبر، الذي أَعلن لاحقا عبر الأمر الرئاسي عدد: 96 المؤرّخ في 31 ديسمبر 1987، عن مشروع تجديد الجامعة، والذي سنخصّص له شرحا مفصّلا. ولكن مما هو جلي في المسار التاريخي للزّيتونة تكرّر ثلاثية: مطلب الإصلاح، ثم نشوء المعارضة الدّاخلية له، اللّذين تليهما إطاحة بالإصلاح وانهيار العملية برمّتها، ومن ثمة العودة إلى حالة الكمون مجددا.
ثالثا: الزّيتونة والحركة الجوهرية المفتقدةلما يحوزه علمَا القرآن والحديث من مكانة مركزية، ليس بأثرهما التفسيري والروائي فحسب، بل بدورهما في تزويد التفرّعات العلمية الأخرى بالمادة المعرفية. فإن الزّيتونة التي درّست السّيوطي والزّركشي والباقلاّني والزّرقاني سابقا، وتدرّسهم حاضرا، بنفس المنهج والأسلوب، تبقى زيتونة لاتاريخية لم تتفطّن إلى التطوّر المعرفي التحوّلي. فمالم يتبدّل هو النّظر في العلوم، وما لم يُطرح هو تنقية المقول الصّائب من المقول الخاطئ، من خلال التقدّم نحو طرح سؤال الرّاهنية الحضارية، مع المنتَج الفكري داخل الزّيتونة مع سحنون واللّخمي والمازري وابن عرفة والبرزلي وغيرهم. إذ سؤال صِدقية المعرفة ومعقوليتها من الشّروط اللازمة لحفظ الفكر الدّيني من الزّيغ والاغتراب.ففي العصر الذي كان فيه الإسبان يدنّسون حرم الزّيتونة، كان العقل الزيتوني يتلهّى بفنطازيا الغيبات وهو يحسب أنّه يحسن صنعا، إذ حتى تاريخ قريب لازم المنطق الغيبي، الممتطي والمستحوذ على الخطاب الدّيني، الزّيتونةَ. ففي سنة 1266هـ-1850م لما اشتدّ المرض الوبائي بأهالي تونس، أمر أحمد باشا باي، وبإشارة من القاضي الحنفي الشّيخ مصطفى بن محمّد بيرم، بانعقاد موكب خاشع، تمّ فيه انتداب أربعين شريفا من أبناء الحاضرة اسمهم محمّد للغرض، ليتحلّقوا بجامع الزّيتونة من الصّباح إلى الظهر ليقرأوا سورة يس أربعين مرّة، وليدعوا الله بدعوات حرّرها لهم، ناقلا ذلك عن بعض الكتب عن بعض الصالحين، داعين الله ليضمحلّ المرض بفضله ورحمته . هذا الوعي الأسطوري لا ننفي انقراضه من الفكر الدّيني الإسلامي، فلا يزال سائدا حتى الرّاهن، ولا يزال التقدير لصلة عالم البشر بعالم الألوهية مغرقا في هذه البلاهة الاعتقادية. ولذلك أقدّر أن النهضة الحقيقية للعقل الإسلامي لن يتيسّر بلوغ مآربها إلاّ بتخليص القرآن الكريم من الفهم اللاّعقلي، مشفوعا ذلك بتنقية أسطورية للسنّة المطهّرة من منطق ‘تدخِل العينُ الرّجلَ القبرَ والجمل القِدر’، المدعومة بكافة أشكال مسحات القداسة المصطنعة.والبيّن أن خرّيجي الزّيتونة قد أدركوا

التعليقات