مصر الكبرى

10:06 صباحًا EET

متطلبات الدولة الحديثة في العالم العربي

 
أود في البداية أن اقدم اعتذاري لقراء صفحة الرأي في صحيفة ‘القدس العربي’ بسبب توقفي عن الكتابة على مدى اكثر من خمسة اسابيع، وذلك بسبب ظروف طارئة تعرضت خلالها لحادث سقوط في احد قطارات الانفاق في العاصمة البريطانية لندن اثناء قضائي اجازتي السنوية ما ادى الى كسر في ساقي اليسرى استدعى اجراء عملية جراحية لزمت بعدها المستشفى حتى هذه اللحظة.

وخلال فترة العلاج تفضل بعض الاصدقاء علي ببعض الكتب الحديثة التي حركت في نفسي الرغبة في الكتابة وكان من بين الكتب التي اثارت اهتمامي كتاب للشاعر سميح القاسم تعرض فيه للصراعات الطائفية القائمة في العالم العربي، وهي صراعات توحى بأن وراءها مخططا لا يستهدف فقط الالتزام بالقيم القومية للامة بل الغاء حالات الصراع جميعها لكون الاختلاف بين الملل والنحل شيء طبيعي وبإمكان الجميع ان يتعايشوا في ظل الاختلافات القائمة بينهم.واذا نظرنا الى خريطة العالم اليوم فسوف نجد أن معظم الدول المتقدمة تخلت عن الصراعات التي عانت منها طويلا بكونها ادركت أن تحقيق المطالب الوطنية لا يكون بسيطرة القبائل والطوائف على الحكم بل بتحقيق نظام الدولة بدلا عن نظام السلطة وذلك أمر لم يلتفت اليه أصحاب النظريات الأيديولوجية بمختلف إتجاهاتهم إذ راينا خلال مرحلة الاتحاد السوفييتي أن الفكرة التي سيطرت على القادة السياسيين في روسيا وحاولوا تصديرها الى العالم الخارجي هي فكرة إقامة دولة البروليتاريا التي تستطيع فيها الطبقة العاملة أن تسيطر على سائر الطبقات االأخرى لتؤسس مجتمعا خاليا من النظام الطبقي، ولكن هذه الفكرة ثبت بطلانها بعد أن تأكد أن المجتمع بحاجة الى سائر الطبقات التي يلعب كل منها دوره في تنمية المجتع، ذلك أنه من الخطأ أن ينظر الى الاغنياء والرأسماليين على أنهم طبقة من اللصوص والمستغلين ذلك بكون الرأسماليين هم الذين يستثمرون أموالهم بالطرق المشروعة من أجل تنمية المجتمع. وإذ نظرنا الى عالم اليوم وجدنا أن اكثر الدول تقدما هي الدول الغربية الرأسمالية والسبب في ذلك هو أن هذه الدول تطبق نظام الدولة وليس نظام السلطة. ونرى أن معظم أصحاب الاموال فيها لا يهربون أموالهم الى خارج البلاد بل يتركونها في داخل المصارف الوطنية من أجل أن تدخل في إطار الدورة الاقتصادية التي يستفيد منها كل افراد المجتمع.ومن جانب اخر يبدو من الخطأ أن يؤسس المجتمع على ايديولوجية عرقية أو عنصرية إذ رأينا أثر ذلك على المانيا النازية في عهد هتلر، ذلك ان هتلر كان لديه الكثير من المنجزات الاقتصادية والصناعية التي يمكن أن ينشئ عليها دولة ولكنه اثر ان يعتمد على عنصر واحد وهو التفوق العرقي وهو تفوق غير مؤكد ولكنه دفع هتلر الى ان يقود بلاده الى حرب مدمرة واجه فيها العالم بأسره وانتهت بهزيمته.ونلاحظ في مناطق اخرى من العالم ان كثيرا من الشعوب تريد ان تؤسس وجودها على ايديولوجيات قومية وهي بذلك تؤسس لعلاقة الفصل بينها وبين امم اخرى ذلك ان تأسيس وجود الدول على اساس قومي يستلزم الاعتراف بتفوق القوميات والا كان ذلك سببا لكثير من الخلافات ذات العواقب الوخيمة.ونلاحظ في منطقتنا العربية بعد ثورات الربيع العربي ظهور المد الاسلامي بشكل كاسح في مختلف البلاد التي تأثرت بهذه الثورات وخاصة في مصر، وكان ذلك امرا طبيعيا لان الاسلام في مختلف الدول العربية ليس مجرد عقيدة بل هو اسلوب حياة، اذ لا يستطيع المواطن العربى ان يتخلى عن سلوكه الاسلامي في ممارسة حياته العادية، ولكن التحدي الذي يواجه الحركات الاسلامية هو كيفية انشاء نظام اسلامي تعتمد عليه الدولة بصورة كاملة، وهنا يجب ان نتنبه الى ان بعض القادة الاسلاميين كما هو شأن خيرت الشاطر في مصر قد اعترفوا بأن صعود القوى الاسلامية سببه انها كانت القوى الوحيدة المنظمة عندما قامت ثورات الربيع العربي غير أن معظم القوى الاسلامية لا تملك تصورا كاملا لكيفية انشاء نظام الدولة على اسس عملية، ويبدو ذلك واضحا في التجربة العملية لنظام الانقاذ في السودان، ذلك ان نظام الانقاذ انطلق في عام 1989 ومنذ ذلك الوقت لم يؤسس للنظام الاسلامي الذي يريده بل كان من الغريب ان الرئيس عمر البشير صرح أخيرا بان النظام يتجه الان لوضع دستور اسلامي، فهل كان النظام بحاجة لثلاثة وعشرين عاما من اجل أن يبدأ التفكير في وضع أسس هذا النظام؟الحقيقة هي ان معظم الذين يقومون بمثل هذه الحركات يفتقرون الى الرؤى العلمية والمعرفية التي تمكنهم من انشاء النظام الذي يريدون وينتهي الامر بان يندفع نحوهم مجموعات من الانتهازيين الذين لا هدف لهم سوى استغلال أموال الدولة وتحويلها الى المصارف الاجنبية وهو ما يسيء الى سمعة النظام الذي ينتسبون اليه. والحقيقة هي ان الاسلام هو المعتقد الوحيد الذي يمكن ان يؤسس عليه نظام دولة ونعرف ان الاسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن هدفه اقامة دولة سياسية بل كان هدفه نشر عقيدة تطهر النفس وتنظم العلاقة بين الانسان وخالقه، ولكن سرعان ما انتشر الاسلام واصبح من الضروري تأسيس دولة على مبادئه وقد وضع الخليفة عمر بن الخطاب الاساس لقيام تلك الدولة عندما خاطب واليه في مصر عمرو بن العاص بقوله ‘متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا’ وكانت تلك العبارة هي الاساس الذي تبنى عليه الدولة الحديثة، ذلك ان الخليفة عمر بن الخطاب اراد بها القول ان الحكام هم خدم للشعوب وليسوا سلطة مسيطرة عليهم وذلك هو الاساس الذي تقوم عليه الدولة الحديثة لاننا اذا نظرنا الى الديمقراطيات الأوروبية والامريكية وجدنا ان الحكام لا يستهدفون الوصول الى الحكم من اجل تحقيق اهدافهم الذاتية بل هم يفعلون ذلك من خلال المؤسسات التي هدفها تحقيق مصالح الشعب من خلال النظام المؤسسي الذي هو نظام الدولة كما هو الشأن في الولايات المتحدة وبريطانيا.ولا بد أن نؤكد هنا أن اقامة الدولة الحديثة لا يستند فقط على المؤسسات وحدها بل لا بد ان يكون هناك وعي اقتصادي عند سائر أفراد المجتمع، ذلك أننا لاحظنا ان الكثيرين في مجتمعاتنا يتهربون من نظام الضرائب الذي تفرضه الدولة وذلك خطأ كبير لأن المفروض على كل مواطن ان يفي بالتزامات الضرائب التي تمكن الدولة من القيام بمشروعاتها لصالح المواطنين جميعا كما تمكنها من اقامة نظام الضمان الاجتماعي العادل الذي يقدم المساعدة للمواطنين، ذلك ان نظام الضمان الاجتماعي يجعل المواطنين على ثقة بأن الدولة تعمل لصالحهم، ولا نقول ان نظام الضمان الاجتماعي غائب بصورة كاملة في العالم العربي ولكننا نقول إنه في معظم الدول العربية نظام غير متكامل ولا يستند الى أسس نظامية شاملة بل يعتمد في كثير من الاحيان على احتياجات الافراد التي تقدر بصورة منفردة.ونخلص من كل ذلك الى ان التحدي الذي يواجه معظم الدول العربية لا ينحصر فقط في تغيير أنظمة الحكم كما هو الشأن في ثورات الربيع العربي بل يتجاوز ذلك الى وجود تصور حقيقي ومتكامل لبناء نظام الدولة كبديل لنظام السلطة وذلك هو التحدي الذي ستواجهه معظم الشعوب العربية في هذه المرحلة.
 

التعليقات