كتاب 11

07:02 صباحًا EET

خضر العمايم وأنا نايم ندهوني

 الشيخ أحمد التوني حالة فريدة في الإنشاد الصوفي، أصاحب صوته منذ سنوات وتعبيره عن مفهوم سمح للدين ومحبة للكافة، للكون، محبة يحض عليها الإسلام النقي، الصافي من المنبع.

ثلاثة لا أعرف لهم مثيلاً، هم آخر حبات العقد الممتد من عصور غابرة وأحد عناصر التكوين لهذا الشعب الفريد، أصحب أصواتهم معي أينما كنت أو أتوجه، في مقدمة رصيدي من الموسيقي والأغاني القديمة والحديثة، أعني الشيوخ منشدي القصائد الصوفية والمدائح، ياسين التهامي وأحمد برين وأحمد التوني، الأول أعرفه شخصياً، وأدرك مدي انتشاره داخل وخارج مصر، والثاني في محافظة قنا، سمعته في إسنا والأقصر، وفي إحدي الحفلات علم بوجودي بين المستمعين وفوجئت به ينشد قصيدة تلقائية في شخصي الضعيف أحتفظ بتسجيلها وأعتز بها، أما ثالثهم فهو الشيخ أحمد التوني وهو حالة خاصة جداً، يبدو مثل أي صعيدي مقيم، لم يفارق الأرض والنخل والنهر والشجر، نحيل، بعمامته وزيه التقليدي يجسد كل ما يعنيه الصعيد، لكن إذا بدأ الغناء يبدو صوته كوناً خاصاً، أحياناً يهمس كحفيف أوراق الشجر بتأثير النسمات الرقاق، ثم يعلو فجأة مثل الخماسين، يتدرج شيئاً فشيئاً أحياناً حتي يبلغ الذروة فيتحول إلي ماء في مجاري السواقي والقنوات التي تأخذ مياه الشواديف العتيقة، وفجأة يصبح شلالاً، من صوت طائر مهاجر إلي زئير أسد مقيم، تبدو تحولات أدائه الفريد نسقاً قائماً بذاته.. إن مسيرة هؤلاء الثلاثة عميقة، شاقة، منذ ظهور مواهبهم في النظم والغناء والإنشاد حتي تلقيهم الأصول عن شيوخ سبقوهم، إلي حين وصولهم إلي القدرة علي حفظ أصعب النصوص الصوفية المشحونة بالرموز وإلقائها علي جمهور من المصريين ربما لا يعرف معظمهم القراءة، هذا واقع لا صلة بالنخبة التي تتولي الإدارة به، هناك مصر أخري غير موجودة في الاعلام الرسمي، أو الدراسات المكرسة للمجتمع المصري، حتي الآن لا توجد دراسة متكاملة عن الإنشاد الصوفي وأنواعه، فما يوجد في قبلي مغاير لما يوجد في بحري، لكن الحس الدفين، القديم، المتجذر في الشعب لا يفصل، إنما يعنيه الأجمل والأقدر، لا يفرق، وهناك احتواء للطرفين، كل منهما يقدر الآخر بمعزل عن الاعلام الرسمي، وقنوات ماسبيرو أو مدينة الإنتاج الإعلامي، إنها مصر الأخري التي لا تعرف تشوهات وبثور الإسلام السياسي وأغراضه المدمرة للإسلام نفسه، لكم سألت نفسي: لماذا تناصر قوي مؤثرة تيارات مثل الإخوان؟، أعترف أن ذلك حيرني كثيراً خاصة من دول ذاقت مرارة الإرهاب الأسود مثل الولايات المتحدة وبريطانيا التي كانت عظمي، وبعد تأمل ومعاينة أدركت أن هذا التشجيع وتلك المؤازرة تبرز الصورة المعادية للإسلام في الغرب، من يعبر عن جوهر الإسلام؟ الشيخ الطيب أو الشيخ علي جمعة أم مرسي ودعائم الجماعة من بديع الطبيب البيطري إلي صفوت منادي السيارات أو البلتاجي بملامحه المخيفة والتي لا ينافسها إلا وجه الشاطر؟

الإسلام أصبح مرتبطاً بالدم، بالقتل، بالإرهاب، لكن جوهر الإسلام السمح الحقيقي له من يحفظه ويدافع عنه، عندما أصغي إلي استقبال المصريين لأمثال الشيوخ ياسين وأحمد التوني وأحمد برين أدرك لكم هو واعٍ ذلك الشعب العريق الذي أنتمي إليه، تبث رسالات التسامح واحترام الآخر من خلال الإنشاد الصوفي، ومعاني الأخوة والتسامح التي يدعو إليها الإسلام الحقيقي قبل أن تشوهه تلك التيارات التي تستخدم الدين كوسيلة للسلطة والتكويش وقد رأينا خلال العام الذي حكم فيه أكبر بلد إسلامي وعربي وظهر منه ما اقشعرت منه النفوس، التكالب علي السلطة وحتي النهم إلي الطعام المجاني.

ما لي أعكر المناخ في معزلي المحاط بالثلوج، والبرد الذي يصل إلي ما دون الصفر بدرجات عدة، أما ما يضاعف الأحاسيس بالبرد فتلك الرياح الشديدة المشهورة بها شيكاغو والتي تستلزم نوعاً معيناً من المعاطف، غير أن ما يؤنسني ويبدد ذلك الشعور بالوحدة بعد استعادة الأحبة فهو صوت الشيخ أحمد التوني الذي قررت الإصغاء إليه طوال ابتعادي عن مصر، مصر ليست معني مجرداً، لقد راقبت جميع مظاهري ودخائلي واكتشفت أنني في عمري المتقدم هذا أتمحور وأدور حول الأصل، حول مصر، وحول الصعيد، وتهيم روحي في فضاءات جهينة وطهطا وأبيدوس حيث صاحبي وأخي خالد وغيره من الأحباب، الصوت يستدعي وطناً بأكمله وليس مكاناً محدداً ترتبط به النفس، ولكن الأهم والأرقي تلك المعاني التي لم أعرفها في أي نصوص دينية من أي ملة، آه يا شيخ أحمد لو تدري ما فعله بي إنشادك وأنا علي بعد آلاف الأميال.

الإنشاد طريق إلي الحق
بأكثر من وسيلة أصغي إلي تسجيلات الشيخ أحمد التي أحتفظ بها علي جهاز ال»آي باد«، الذي يحوي ثروتي من الموسيقي والتي حفظها من الاسطوانات ورتبها وفهرسها زميلي أسامة فاروق الصحفي بأخبار الأدب، وأخي الحبيب محمد شعير أحد ألمع المحررين في مجال الثقافة والسياسة معاً، نسخة أخري علي هاتفي الذي يوصف أنه ذكي، سوف أتحدث عن النصوص الموسيقية الأخري والتي أتمني لو سرت مع دمي لولا ما لحق به في السنة الأخيرة، أخشي علي الأنغام مني، من أعطابي ولواحقي، آه يا شيخ أحمد، تفضل، تفضل.
الموسيقي أولاً، فرقة صغيرة لكنها مقتدرة، واضح قدرة أفرادها علي العزف وإتقان الرهافة والتمتع بحساسية فائقة، ها هو صوت الشيخ أحمد يبدأ في اللواع، صوت مثل أصوات أعمامي وأخوالي من جهينة، للأسف لم أسجل لأبي ولكنني عندما أستمع إلي جابر أبو حسين، جابر أبو حسين بالذات في السيرة الهلالية التي أنقذها الخال الأبنودي من العدم كأني أصغي إلي صوت أبي رحمه الله رحمة واسعة إنها اللهجة السوهاجية الصميمة، يختلف نطق أهل الصعيد ليس من محافظة إلي أخري ولكن من قرية إلي قرية، ولهذا أصول وأسباب لم يدرسها أحد ولم يعني بها باحث وقد تندثر قبل أن ندرك الأسباب.
فلأصغ، يتغير وضعي، أتجه بكلي إلي المصدر، نعم يا شيخ أحمد.. نعم.
في ديري، يعني..
يبدأ الصوت رقيقاً، هامساً، لا ينبئ أبداً بما سيكون منه، القصيدة عنوانها »الله محبة« ورغم العبارة الدالة علي مرجعية قبطية فلم أتوقع قط تلك المعاني، تفضل، تفضل أيها الشيخ الفريد، المؤثر فيّ، في المحبين أينما كانوا.
ضرب ناقوسي في ديري
تحركت الصلبان
ياه، أي مطلع؟ أي جمال هذا؟، يتوقف الشيخ ليشرح: ديري يعني قلبي، لا أعرف من نظم هذه القصيدة العبقرية، الظاهر قبطي والباطن إسلامي، إنما الحياة كلها رموز، لا شيء نراه يدل علي المنتهي الذي ليس بعده شيء، الرمز يفتح طريقاً، يظهر أفقاً ليس بمحدود، تفضل، تفضل يا عم أحمد..
وآدي راهب الدير أكلمه كلمة
كلمني كلمة علي كل لسان
الله محبة، الدين محبة،
أي والله يا شيخ أحمد، الله محبة والدين محبة، نلاحظ التنقل بين الفصحي السليمة جداً، الفصحي صنو للعامية التي تطال مناطق من الشعور والفهم تعجز الفصحي عن الوصول إليها، تفضل يا شيخ أحمد، تفضل..
لما تدور السواقي تجري القنا في البستان
بتدور، بتدور، بتدور، وتطلع نور
الله محبة
تخضر الأرض ويجرح الورد فوق العيدان .
يا ورد الجنينة قُل لي إيه وصفة الرمان
ورد الجنينة قال لي وسط الورد
وسط الريحان
قولوا لي علي وقفة السبيل
اللي عليه ستي الكريمة
دي ستي يا بني من غير هُزال
كمان قُل لي (ينطقها جُل لي)
يا سيدي قُل لي
قل كمان ع الولد اللي شرب
تسعة وتسعين بحر
ولما سألوه قال أنا لسه عطشان
يا الله السلامة
السلامة .. السلامة
آه، أي والله يا شيخنا، يا الله السلامة، في هذا المقعد يصعد صوت الشيخ قمماً غير مرئية ويطلعنا علي دروب غير معروفة، مجهولة، مهما وصفت فلن أقدر علي تجسيد النغم والمعني، ما أقوم به أنا العبد الفاني مجرد إشارة إلي كنز، كنز في المعني وآخر في النغم من مكنون أهلي وجوهر روحي وسنه بصري، أهلي المصريين، سأمسك وأرجئ تدخلي إلي حين، لقد نبهت فلا أذكر مما تبقي حتي يحين الحين فأفضي الأسرار، تفضل يا شيخ أحمد يا جميل يوقف الإنشاد، يخرج عن النص ليردد منغماً
»يا جميل، يا جميل«
لم أعرف أرق من هذا النطق في الترقيق والرجاء والرغبة في الاتباع، لأكف، ألم أقل إنني سأتوقف، اعذرني يا مولانا.
يا الله السلامة
السلامة من القلب، الله محبة، الله مودة
القلب اللي حب وحب وما خطر علي حد
قبة مزخرفة من جوة
ومنورة من بره
يا مدعي الحب
اقتل نفس الشيطان
ولا يشغلك عن حبيبك المسيح
تقول فلان وفلان
الله السلامة يا الله
ولا حصان وعليه الحب
وبحره بحر الله
تعال أنا ما مشيتشي
صباحية مباركة يا عمي
نظرة يا سيدنا الحسين
هنا تصدر عن الشيخ أصوات أحار في تفسيرها، يليها صمته وبروز عزف العود المغرد، عزف جميل مرتجل مناسب للمقام، لكن عن أي مقام أتحدث؟ إنه رقرقة القلب عند ذكر الله ورسله أجمعين، لقد احتفظت بأكثر من عشرة نصوص لنفس القصيدة، وفي كل مرة تبدو كأنها إبداع جديد، تتحرك كلمات وتفد ألفاظ لم تذكر في مرات الإنشاد الأخري، تفضل يا شيخ أحمد، تفضل يا ملهم..
أنا ضرب ناقوسي في ديري
تحركت الصلبان، أهل الكتمان
ولساكن القلب (الدير) أكلمه كلمة
كلمني كلمة واحدة
يكلمني الكلمة علي كل لسان
أنا سألت عليه القديمة
هنا يشرح الشيخ بالنثر، تتوقف الموسيقي، يقول: يعني كلمة لا إله إلا الله، ثم يمضي مستأنفاً..
أنا سألت عليه القديمة
الله محبة، سألت عليه المحبة
واحد، اثنين، جسمي بالحب مليان
قال لي اسمع يا شاطر
قال لي موسي وعيسي والأنبيا كلهم
يهدوا إلي طريق الرحمن
لما تدور السواقي
تجري القنا في البستان
يا ولد افهم رموز والمعني اللي فيها
دا ابراهيم وموسي وعيسي
والأنبيا كلهم يهدوا إلي طريق الرحمن
لا يفرقوا
إنما يجمعوا بني الإنسان
لما تدور، لما تدور السواقي في البستان
وتطلع نور، تطلع نور
الله محبة، الله محبة، الله، الله
يتصاعد النغم والمعني، لا أعرف إلي أين نمضي بالضبط، لقد بلغنا الهيام..
يا حبيبي
ناديت، ياللي تداووا الناس داووني
هاتوا دواي من عيسي بن مريم حبيبي وداووني
هاتوا دواي من حبيب الكل وداووني
خضر العمايم وانا نايم ندهوني
أهل الكرم في الحرم ناديتهم جوني
قالوا نعدك معانا ، قلت عدوني
أنا أشرط عليهم في بحر الخوف يعدوني
عدوني، عدوني
لما لقيوني وع الطرف ثبتوني
وحلفوا بالله، أبداً لم يفوتوني
الله محبة، الكل، الكل محبة،
الدين محبة…

التعليقات