مصر الكبرى

12:47 مساءً EET

ثقافة الهزيمة واحتلال العقل العربي

عندما وزّعنا ورقتنا في مطلع صيف 2012 حول ‘التجدد الحضاري العربي’ وضرورة ‘إنشاء منظومة معرفية عربية’ كنّانتوّقع ذلك الحين أن العديد من النخب المثقّفة العربية ستواجهنا بأسئلة واستغراب. ولم يخب ظنّنا فالأحاديث والحوارات المتعدّدة التي أجريناها مع هذه النخب كرّست قناعتنا أننا لسنا مثقفّين عرب أن العديد مثقفون غربيون ناطقون باللسان العربي. وعندما نطالع المؤلفّات لعدد من الكتاب والمقالات في الصحف العربية حول قضايا الأمة تترسّخ قناعتنا أن العقل العربي محتلّ من قبل الغرب بشكل عام ومن الولايات المتحدة بشكل خاص.

لا ننكر جاذبية الفكر الغربي ونمط الحياة المعتمد في بلاد الغرب وخاصة في الولايات المتحدة ولكن ما يصعب علينا القبول به هو نكر الذات بل جلد الذات. فالعقل العربي لا يحظى إلاّ بالإحتقار والإستهزاء عند العديد عبر العبارة التصغيرية التهكّمية ‘العربان’. فالعرب قدرهم الهزيمة على ما يبدو عند هؤلاء وهذا ما جعلنانفكّر مليّا بأمر الهزيمة المزعومة وتأثيرها على عقل هذه النخب.
ونقول أن الهزيمة مزعومة لأنها في عقول البعض وليست في الواقع وإلاّ لما كانت الغزوات المتواصلة منذ حملات الفرنج في القرون الوسطى إلى حملات المغول إلى الحملات الإستعمارية في القرن التاسع عشر والعشرين وحتى في بداية الألفية الجديدة. فما هذه الأمة التي يحاربها الكون منذ أكثر من تسع مائة سنة حتى اليوم إن لم تكن أمة ترفض الخضوع والزوال كما حصل لسكّان القارة الأميركية عبر غزوات الإستيطان الأنكلاوسكسوني والإسباني؟
لكن بالمقابل لا ننكر أن أمتّنا تحمّلت هزائم عسكرية متعدّدة لأسباب عديدة لا داعي لسردها وتحليلها لضيق المساحة في هذه المحاولة. هذه الهزائم جعلت المؤرخ البريطاني برنار لويس صاحب الهوى والعقل الصهيوني يقول أن الهزائم العسكرية على يد الغربيين جعلت العديد من العرب والمسلمين يعتقدون أن التفوّق الغربي لا يمكن مواجهته بالمنظومة الفكرية القائمة ويقصد بذلك العروبة والإسلام وبالتالي لا بد من استنساخ المثل الغربي وخاصة في الميدان التكنولوجي لإعادة التوازن مع الغرب. ويضيف لويس أن استنساخ التكنولوجيا غير كاف وقد فشل لأن ما وراء التكنولوجيا هو المهم بل الأهم أي المنظومة المعرفية في العلوم السلوكية والقيم المتبعة في الغرب. الغريب أن هذه المقولة لم تستدع أي رد على لويس إذا ما استثنينا العدد القليل من المثقفين العرب الذين لا يحظون بتأييد معظم النخب العربية.قال ابن خلدون مبوّبا أحد فصول كتبه : ‘أن المغلوب مولوع بالغالب في مأكله وملبسه ومشربه’ أي في أنماط عيشه ولباسه وليس في أسباب قوته ونهضته ثم يضيف: ‘وذلك لخلود المغلوب للدعة والراحة’.
العرب يعيشون منذ عدة قرون عقدة الغزو الخارجي، الآتي من الغرب كما الآتي من الشرق. وبالتالي حذرهم من كل ما هو آت من الخارج في مكانه وخاصة فيما يتعلّق بالمنظومة المعرفية الوافدة. فهدفها الأول إقتلاع جذور الهوية واستبدالها بمفاهيم مغايرة للتراث والواقع. وهنا يجب علينا الإعتراف بأن الغرب نجح عبر غزواته المتكرّرة واحتلاله للأقطار العربية لعقود طويلة أن يزرع في عقل العديد من النخب العربية منظومة معرفية مختلفة عن تلك النابعة عن تراث العرب وواقعهم كما فصّلنا ذلك في بحث منفصل. وخلصنا بالقول أن احتلال العقل أخطر من احتلال الأرض وهذا هو واقعنا المرير.
هذا الإحتلال ناتج عن ثقافة الهزيمة التي نشرهاالعديد من النخب العربية الحاكمة والمعارضة على حد سواء. ونعتقد أنه من المفيد تفكيك مفاصل تلك الثقافة التي تلازمت مع ثقافات مترسّخة في مجتمعاتنا وساعدت على تعميمها على عقول النخب ألا وهي ثقافة الريع والإتكال والتبعية والفساد.
نقطة البداية مقولة العلاّمة ابن خلدون التي أوردناها أعلاه. ولكن تقليد الغازي المنتصر في ‘مأكله وملبسه ومشربه’ ليس إلاّ ظاهرة سطحية وإن كانت استعراضية وملفتة للنظر. لم يعالج ابن خلدون مسألة المنظومة المعرفية ‘المنتصرة’ لأنها في عصره كانت أقل كمّا وقيمة من المنظومة السائدة في دار العرب والإسلام. فالمغول والفرنج الذين غزوا الأقطار العربية والمسلمة لم تكن منظوماتهم المعرفية أهم أو حتى قريبة من المنظومة العربية الإسلامية. وبالمناسبة نلفت النظر أن بعد معركة عين جالوت (1260)، أي بعد سنتين عن سقوط بغداد على يد هولاكو اعتنق الأخير ومعظم المغول الإسلام!!!كذلك الأمر بالنسبة للرومان الذين هزموا على يد البرابرة الآتين من الشمال الأوروبي والأقل ثقافة ومعرفة من الرومان. أسباب الإنتصار للغزاة كانت في الفساد القائم والإسترخاء في المجتمعات المهزومة كما شرحها ابن خلدون. وبالتالي، هذا ردّ بليغ على مزاعم برنار لويس وأتباعه أن تفوّق الغرب أدّى إلى هزائم العرب والمسلمين. فالعرب والمسلمون كغيرهم قبلهم وبعدهم هُزموا في حقبات محدّدة على يد غزاة أقل ثقافة ومعرفة!
من الطريف أن الولايات المتحدة، ‘أقوى قوّة عسكرية وإقتصادية’ في العالم هزمت في فيتنام على يد مجموعة أقل معرفة إذا جاز الكلام وهم الفيتناميون. يقول قائد النصر الفيتنامي الجنرال جياب ردّا على سؤال حول رأيه في الأميركيين: إن الأميركيين تلاميذ غير نجباء، أي لا يتعلّمون من دروس الماضي والحاضر! وهزيمة الأميركيين على يد الفيتناميين تفنّد إعتقاد معظم المثقفين العرب أن المنظومة المعرفية الغربية متفوّقة على المنظومات الأخرى (وهذا صحيح إلى حدّ ما في الوقت الحاضر) لكنّها لا تفسّر الإنتصارات العسكرية بل جاءت نتائج ساحات المعارك معاكسة لهذه المقولة. الإنتصار هو لمن هو صاحب الإرادة الأقوى ومدى استعداده لدفع الثمن لتحقيق النصر! فالصراع العربي الصهيوني ليس صراعا بين منظومات معرفية بقدر ما هو صراع بين الإرادة العربية والإرادة الصهيونية. فالنظام العربي الرسمي (باستثناء العراق وسورية) تخلّى على ما يبدو بعد غياب عبد الناصر عن إرادته بينما ظهرت قوى غير رسمية كحزب الله صاحبة إرادة أقوى من الإرادة الصهيونية فكان النصر عام 2000 ومن بعد ذلك عام 2006!
فهل تعّلم الأميركيون من الماضي والحاضر؟ الدلائل المتوفرة لدينا تؤكّد مقولة جياب أنهم لا يكترثون بالماضي ويعتقدون إن الهزيمة التي حلّت بهم في فيتنام ‘خطأ’ يمكن استيعاب نتائجه دون التغيير في السلوك والعقل المنظّم لسياساتهم. فعلى ما يبدو قدر الأميركيين هو عدم الإستفادة من دروس الماضي والإتّكال على قوة عسكرية مفرطة لا تنافسها في القدرة التدميرية أي دولة في العالم.لكن هل يكفي ذلك؟ طبعا لا،لذلك يكرّرون ‘المغامرات غير المحسوبة’ في أفغانستان والعراق ومن يدري غدا في ايران أو سورية؟! وعلى ما يبدو فإن العديد من المثقفـــين العرب استنسخوا وما زالوا نفس الأخطاء في الغرب. فالغرب الغازي للأقطار والعقول العربية والمسلمة يتمتع بمنظومة معرفية أهم كمّا ونوعا من المنظومة المعرفية العربية الإسلامية المعاصرة. حتى أن تراث الأخيرة أصبح في محافل الفولكلور والإستعراض ولم يعد في عين البعض مؤسّسا (بكسر السين) لمنظومة حديثة أو جديدة. فالعديد من المثقفين العرب لا نريد ذكرهم ينادون بضرورة القطيعة مع التراث والمنظومة النابعة عنه وضرورة التبنّي بدون تحفّظ بالمنظومة الغربية. هذه هي نتيجة ثقافة الهزيمة فكيف تتجلّى في عقول نخبنا؟لذلك نلجأ، وللأسف، إلى تحليل المؤرّخ الألماني ولفغانغ شيفلبوش صاحب مؤلّف مفصلي في غاية الأهمية أصدره عام 2003 وعنوانه: ‘ثقافة الهزيمة: حول الصدمة الوطنية، الحداد، والتعافي’. نتمنّى أن تتم ترجمة ذلك المؤلف إلى العربية لما فيه من دروس وعبر تفيد النخب العربية!حلّل المؤرّخ الألماني ظاهرة الهزيمة في تاريخ الغرب علما أن ما استخلصه من دروس يمكن تعميمه على صعيد العالم ولأنه لا يختلف عن ما جاء به ابن خلدون. يقول مارتن ولاكوت معلّقا على كتاب شيفلبوش ودور الهزيمة في سلوك الشعوب أن ‘الأصولية الإسلامية تُفسّر كردّة فعل للتراجع الإسلامي المزمن في العالم’ (الغارديان 29/11/2003). وبغض النظر عن صحّة تلك المقولة أو عدمها لأنها خارج إطار هدفنا في هذه المساهمة، فإن قيمة مؤلف شيفلبوش تكمن في إبراز سلوك الشعوب في تعاطيها مع الهزيمة بأنها نوع من الحلم، سواء كانت من نشوة الإنتصار عندالمنتصر أو تعداد ‘أسباب الهزيمة’ والبحث عن حلول عند المهزوم. وتقع الشعوب في مزيج من العقلانية واللاعقلانية بنسب متفاوتة. فتبادر الشعوب على خلق أوهام أو أحلام بدلا من معالجة الأسباب وإيجاد الحلول. ويستند شيفلبوش في تحليله لتجربة هزيمة الفرنسيين على يد البروسيين عام 1870عندماحاول الفرنسيون خلق واقع بديل أكثر راحة عبر القول أن الهزيمة كانت ‘نكسة’ فقط!!! ولكن المسألة في رأينا ليست في إيجاد واقع مريح مختلف عن مرارة الواقع بل الحفاظ على الثقة بالنفس وعدم جلد الذات. هل من صدى لذلك الكلام عندنا؟ويضيف المؤلّف أن المجتمعات المهزومة تلجأ في خلقها لحقيقة بديلة إلى استذكار بعض معالم التراث التي تعيد العزّة بالنفس والطمأنينة بأن ‘الهزيـــمة’ غيمة عابرة يمكن امتصاص نتائجها! هنا يعطي المعلّقون أهمية لذلك التحلـــيل لتفسير ظاهرة وتناذر الحركة الإسلامية الأصولية التي تلجأ إلى واقع بديل عن الواقع الحالي عبر استذكار ما تعتبره علامات مضيئة في ماضي الأمة. والسياسي ‘الناجح’ هو الذي يجيد فنّ الخطابة التي تطالب بعودة كل ما تمّ خسارته ويعلم علم اليقـــــين استحالة ذلك.
يقول شيفلبوش بأن السياسي الفرنسي ليون غامبتا كان يردّد في حلقات ضيّقة أنه من الجنون المطالبة بإسترجاع مقاطعتي الألزاس واللورين التي خسرتهما فرنسا في حرب 1870 بينما لم يتوقّف في خطاباته السياسية عن المطالبة في استرجاع المقاطعتين. للعلم، استرجعت فرنسا المقاطعتين بعد هزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى! فليس هناك من شيء مستحيل إذا ما توفّرت الإرادة. كلام شيفلبوش ينطبق في رأينا على المجتمعات التي لا تريد عودة القتال لإسترجاع حقّها المسلوب وتفتّش عن تبريرات ‘مريحة’. فخيار المقاومة التي تنتهجه مجموعات عربية وإسلامية صحيح بينما خيار المفاوضة في ظل الخلل الإستراتيجي في موازين القوى خيار عبثي. صراع الإرادات يتجاوز صراع الموازين!ثم يضيف شيفلبوش أن المجتمعات المهزومة تهاجم أطراف ثالثة لم تكن مسؤولة عن الهزيمة. وهنا نسأل هل الإقتتال العربي العربي والمسلم المسلم تجسيد لذلك؟ هل طريق فلسطين واسترجاعها تكون في الإقتتال الأخوي؟ هل تكون الوحدة عبر التقسيم؟ أما على الصعيد العالمي فهل ردّة فعل الولايات المتحدة على الهجوم التي تعرّضت إليه في أيلول 2001 محاولة لمحو ذاكرة هزيمتها في الفيتنام عبر مهاجمة العرب والمسلمين؟يعود شيفلبوش في تحليل تداعيات الهزيمة إلى نفس النتائج التي وصل إليها ابن خلدون. فالنخب في المجتمعات المهزومة تنتحل مظاهر التفوّق في المجتمعات المنتصرة عبر التبنّي في ‘الملبس والمأكل والمشرب’. فثقافة الإستهلاك في الدول العربية الريعية استبدلت الهامبرغر بالشاورما والكوكا كولا بالعصير والجلاّب والتمر الهندي والبلو جينز باللباس الوطني. حتى في الفن تم استبدال ‘الراب’ و’البوب’ بأم كلثوم. حتى الحركات الجسدية والمشي والكلام ولباس القبعة عند بعض شباب ثقافة الإستهلاك أُستنسخ من ‘طقوس’ الشباب الأميركيين!
أما على الصعيد الفكري فغابت المعتزلة وحلّ مكانهم كانت وفلاسفة التنوير وغاب ابن خلدون وحلّ مكانه دوركهيم وبورديو ودريدا. أما في التاريخ فتمّ تدريس تاريخ فرنسا في الإرساليات الفرنسية بدلا من التاريخ العربي أو حتّى الوطني. وفي لبنان ما زلنا نتخبّط حول ‘توحيد الكتاب المدرسي’ وخاصة كتاب التاريخ! أما اللغة العربية فتتراجع في معاهد التعليم العالي لمصلحة اللغة الإنكليزية كما يحصل في دول ‘الخليج العربي’!لكن الأخطر من ذلك هو تبنّي المنظومة المعرفية الغربية دون التدقيق فيها والتمحيص. فالمفاهــــيم الغربية في العلوم السلوكية أصبحت ‘المعيار’ وتحليل قضايا مجتمعاتنا أصبحت بتلك الأدوات التحليلية التي تأتي في كثير من الأحيان بنتائج عبثية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر نظرية ‘تنظيم الأسرة’ تهدف إلى تقليص الولادات لجعل الأسرة أقلّ حجما وتقليل التكاثر السكّاني لتحقيق رفاهية فردية أكبر! والغرب يشكو الآن من تراجع في النمو السكّاني الطبيعي ومن الشيخوخة! فلماذا نتبع ذلك النموذج؟
مثل آخر عن عبثية أتبّاع كافة الأفكار والمنظومات الفكرية دون إخضاعها لتدقيق وتمحيص: الإهتمام بقضايا فرعية وإن كانت هامة على حساب القضايا الوطنية. تحوّلت اهتمامات للعديد من النخب المثقفة والناشطة في العمل العام عن معالجة القضايا الوطنية كالإستقـلال وخطر الصهيونية ورفض التبعية والإحتلالات الغربية والقواعد العسكرية والوحدة والعدالة الإجتماعية والتنمية. أصبــح محور إهتماماتها قضايا حقوق الإنسان والحرّيات وإشكاليــــات إفتراضية كالحــــداثة والأصالة وتوافق أو عدم توافق الديمقراطية والإسلام والعولمة والقطيعة مع التراث إلى كل ما ينتجه الغرب والعديد من المثقفين العرب المستغربين الذين يسعون دائما إلى استرضاء الرجل الأبيض!
احتلال العقل العربي من قبل الغرب يسهّل استيلاب الإرادة ومن بعدها الثروات. فالعقل العربي المحتّل يبرّر وينظّر للإحتلال خدمة لقضايا أقل أهمية من الإستقلال الوطني. يقول أحد المجاهدين الجزائريين الذين قادوا حرب التحرير ضد الفرنسيين أن هدف أي ثورة تحرّرية هو تحرير الإرادة من المستعمر إلاّ في بعض الأقطار العربية حيث أصبح ‘التحرير’ الوجه الآخر للإحتلال الغربي! الإفراط في حماية ‘الأقلّيات’ في مرحلة سابقةتناغم مع ‘إستعادة حقوق الأكثرية المسلوبة’ في المرحلة الحالية فيذهب الوطن وتتفتّت المجتمعات ليس فقط إلى طوائف ومذاهب بل إلى عشائر وحارات وزواريب.ونضيف شيئا هو أن فساد العقل من فساد الأخلاق وكما قال الشاعر:إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

التعليقات