مصر الكبرى

08:21 صباحًا EET

كي لا تكون الحرية استعراضاً للفتوّة

من بين الأفكار والمفاهيم، أو المقولات الكبرى التي ينسب إليها تأسيس الحداثة وحمولتها العالمية، قد تكون فكرة الحرية الأكثر بديهية والأقل احتياجاً للتمحيص والتفحص النقديين. وهذا بالضبط ما يجعلها تجمع بين أقصى البساطة الواضحة وأقصى الغموض والتعقيد. فهي تتقدم كشيء تكويني ملازم للطبيعة البشرية، إذ من دونها يفتقد البشر، أفراداً وجماعات، القدرة على الاختيار وإعمال ملكة الحكم على ما يلابس حياتهم ونفوسهم.

هذا، على أي حال، ما رمى إليه إعلان الاستقلال الأميركي عام 1776 قبل ثلاث عشرة سنة من إعلان الثورة الفرنسية المعروف عن أن البشر يولدون ويظلون أحراراً ومتساوين من حيث الحقوق. فالإعلان الأميركي يعتبر من الحقائق البديهية أن البشر يولدون متساوين، وأن الخالق منحهم حقوقاً لا تمس من بينها الحياة والحرية والبحث عن السعادة، وأن الحكومات البشرية تأسست كي تضمن هذه الحقوق. الفارق ليس كبيراً بين منطوق الإعلانين، وإن كان الفرنسي ينسب الحرية إلى الولادة، أي الطبيعة، فيما الأميركي ينسبها إلى الخالق. وإذا قصرنا الحرية ههنا على معناها الإرشادي والأخلاقي، بدت قريبة من معنى القول العربي الإسلامي المأثور والمنسوب إلى الخليفة الثاني عمر: كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ وقد استلهم هذا القول قسم بارز من الأدب الإسلامي الحديث، الإصلاحي والنفاحي الطامح إلى المواءمة بين الأفكار الحديثة الوافدة وبين مبادئ الإسلام وموقعه في تجديد الوعي الذاتي. فجرى التركيز على حديث «الفط
رة» النبوي المعروف لربط فكرة الحرية بطبيعة بشرية يحفظها الإسلام إذا فُهم جيداً. وليس مصادفة أن يضع كاتب إسلامي منافح وتوفيقي، هو المصري عبد العزيز جاويش، عنواناً لكتابه مثل «الإسلام دين الفطرة والحرية».
على أننا لن نتوسع في تناول المسعى النفاحي، ومفارقاته والتباساته، في المطابقة بين أفكار لا تستقر على مرجعية دلالية واضحة. فهذا شرح يطول. المهم أن هذا المسعى التقط، على طريقته، وجه الصلة بين الحرية والحالة والحق الطبيعيين في أدبيات الغرب الحديث. ذلك أن العبارات التي تصدرت الإعلانين الفرنسي والأميركي، ومعها القول الإسلامي المأثور، عن حقوق ثابتة وتكوينية للبشر، كان يسعها أن تبقى في حدود البلاغة الوعظية والتربوية لولا أنها تنتظم في سلسلة مترابطة ومتحركة من الأفكار الأخرى التي تسمح للحرية بأن تتحقق في شروط معلومة وأن تتحصل على صفتها السياسية والحقوقية.
غني عن القول إن حال الطبيعة والحق الطبيعي، والفطرة أيضاً، ليست فرضية بحث تحتاج إلى التدقيق التاريخي. فهما لا يقعان في زمن ومكان جغرافي معلومين، بل هما ضرب من التمثيل الذي يجيز التأسيس لأمور أخرى لا تقل تجريدية كـ «الإنسانية» و «المواطنية» و «القانون» الوضعي. هناك إذاً شيء اسمه الإنسان سابق على انتظام البشر في جماعات ونظم اجتماعية ودينية. ولهذا الشيء حقوق بمقتضى الطبيعة. على أن الإنسان لا يحقق صفته هذه، سياسياً وحقوقياً، إلا في مجتمع يتشكل بداعي الإرادة والاختيار لا بداعي النسب والأصل والفصل. وفي هذا الإطار تبلّورت مفاهيم حديثة لفاعل وصانع لمصيره وتاريخه مثل الشعب والأمة والدولة السيدة التي تجسدهما وتحفظ وترعى ديمومتهما كجسم سياسي وحقوقي. ولا حاجة الى قول إن الفكرة الديموقراطية تقيم في أفق هذه الوصفة.
نحن نعلم أن الحرية حجر الزاوية في بناء الليبرالية كنظام وأسلوب حكم. وفي هذا النظام لا حرية من دون قانون وقدرة على الضبط والتحكم. فكما أن الحالة الطبيعية لا تقتصر على وجود قوانين رائعة لعمل الكون وأفلاكه وعناصره وتحتمل أموراً خطيرة كشريعة الغاب، كما يقال، يخشى من انقلاب الحرية إلى فوضى ومن استعمالها، ومعها حقوق الإنسان وسيلة ابتزاز تبررها غايات الإخضاع والسيطرة. وهذا ما حمل، على الأرجح، فلاسفة حديثين على التحفظ عن الاستخدام العشوائي لفكرة الحرية. بل حتى أن فيلسوفاً نقدياً مثل ميشال فوكو يذهب إلى حد رفض الحرية كمقولة عالمية، إذ هي، بحسبه، ليست سوى وجه علاقة بين حاكمين ومحكومين. والليبرالية التي اشتقت اسمها من كلمة الحرية بالذات (ليبرتي) هي ماكينة هائلة منتجة ومستهلكة للحريات. ولهذا تحتاج إلى الأمن وتضع القانون في منظار أمني. ذلك أن الليبرالية، دائماً وفق فوكو، هي فن العيش في خطر، خطر الإضراب والتمرد وتهديد الربحية وانفلات السوق إلخ. وقد جمحت النيوليبرالية وعولمتها في العقود الثلاثة الأخيرة إلى تقليص الضوابط التي تعيق حريتها. ولنا خير مثال في كوارث عهد جورج بوش ومحافظيه الجدد. ففي أي خطاب لهؤلاء نجد «الحرية» مرفوعة كفقاعات إيديولوجية تتراسل مع فقاعات المضاربات المالية وخصخصة الحروب وجعل الدولة في خدمة السوق والتجارة الحرة. تتيح الليبرالية عادة دوراً لشبكات النفوذ والضغط لكن هذا الدور بلغ حداً غير مسبوق مع النيوليبرالية. بل أدخل، في لعبة السوق وفي العلاقات الدولية ضروباً من الفتوّة ساهمت، في ظل انكفاء الجماعات على عصبيات ما دون الوطنية، في توليد مناخ ملائم للفتوات الأهلية في أكثر من مكان، وإن بأشكال مختلفة.
باسم حرية مستعادة جرى تدمير، بالجرافة، لأضرحة أولياء في ليبيا. وباسم هذه التي لها باب بكل يد مضرجة يدقّ، على قول الشاعر، يعتدى على الفنانين والكتاب. وباسمها يواصل النظام السوري تفويض نفسه باستملاك القوة الوطنية والاجتماعية مانحاً نخبة السلطة حرية مطلقة لا تؤسس إلا للعسف. وكان البعث قد جعل الحرية ثاني أقانيمه الثلاثة (وحدة، حرية، اشتراكية) وانعطف بها كلها نحو نقائضها. القادة الغربيون الذين يهددون بالتدخل إذا تجاوز النظام الخط الأحمر واستخدم السلاح الكيماوي، هم أحرار أيضاً وبصورة مضاعفة، إذ حيال مناوراتهم وحساباتهم الباردة تصاب ألسنة معظم المعارضة بحبسة قوية فيما المجازر تتوالى والعنف يعمّ. السلطة الوطنية الفلسطينية التي رحبت بفتح تحقيق قضائي فرنسي حول اغتيال ياسر عرفات، بعد ثماني سنوات على موت الرجل الرمز في ظروف غامضة ومشبوهة، هي أيضاً حرة وفق الظروف. لائحة النفاق والرياء والتزلف والواقعيات المبتذلة طويلة جداً، وهي كلها باسم الحرية. يبدو أن الحريات مخيفة. ينبغي ربط الحرية كي يتحقق لها قوام بمفاهيم أقرب إلى تطلعات المعذبين وفي مقدمها العدل والمساواة.

التعليقات