مصر الكبرى

08:20 صباحًا EET

الشَّطط الإعلامي في الفضائيات العربية

 
منذ بضع سنين، عندما بدأت موجة ولادات الفضائيات التلفزيونية العربية، إستبشرنا خيراً. لقد كان ذلك إعلاناً عن كسر إحتكار الدولة العربية لواحدة من أهمَّ وسائل تكوين الرأي العام بواسطة أنصاف الحقائق، والمبالغات في المديح، وتعظيم ذوات القادة وشخصنة الحياة السياسية، وإخفاء الفساد، والتلاعب بغرائز الإنسان الإجتماعية البدائية.

قلنا آنذاك بأن قوى وأشخاص المجتمع المدني ستعدٍّل المسار الرَسمي الخاطئ السابق وستساهم في بناء مجتمعات متحاورة متسامحة متسامية دوماً نحو الأفضل والأرقى. اليوم، وقد مرَ الكثير من سنين التَجربة لمئات الفضائيات العربية، تبدوا آمالنا السَابقة وكأنها كانت تمنِّيات عبيطة لم تحسب لما خلَّفته عصور الإنحطاط العربية والإسلامية من سلوكيات مريضة ومن أفكار متحجٍّرة ومن إنقسامات مذهبية خبيثة متقيِحة ومن استعداد مذهل للتراجع نحو الهمجية.اليوم تساهم الكثير من الفضائيات في ترسيخ وقبول اساليب حوارية متوحِّشة لا تنتهي قط بتعديل في مواقف وقناعات المتحاورين أو بأدنى إقرار بامكانية صواب موقف الآخر، فتستمر الاستقطابات المجتمعية الحادَّة.اليوم يتزاحم المشهد الفضائي غير الحكومي بنفس قصائد المديح والتلميع والكذب والتأليه التي كان يلقيها الإنتهازيون والوصوليون أمام مشاهدي القنوات الرسمية الإحتكارية في الأزمنة الغابرة.بل اليوم تمارس الكثير من الفضائيات ما لم تجرؤ المحطات الرسمية السابقة فعله. بعضها يؤجِّج الفتن الطائفية بين السنَّة والشيعة بصور إجرامية حقيرة، ويثير النَّعرات والكراهية القطرية على حساب رابطة العروبة، ويتعمد بالمبالغات والتهويل دفع الأمَّة العربية نحو التَّصادم مع دول الجوار الإسلامية على حساب الصِّراع مع العدو الصهيوني، وينغمس في ترسيخ ثقافة سطحية إستهلاكية غريزية مبتذلة على حساب ثقافة الالتزام بقضايا الأمة والوطن والإنسانية التي تحتاج إلى فهم تحليلي عميق لواقعها.فاذا أضفنا إلى ذلك فضائيات الشَّعوذة الدينيَّة، والقراءات المتخلِّفة المنحازة المضحكة لنصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وبلادات الوصفات الطبيَّة غير العلمية والمضَّرة، والإندماج التَّابع لفكر الليبرالية الجديدة في الإقتصاد العولمي بكل مغامراته وخطاياه، وإعلاء شأن المغنِّين والرياضيين على حساب المبدعين والمفكرين والمناضلين …. أذا اضفنا كل ذلك أدركنا حجم مشكلة وخطر الإعلام الفضائي العربي غير الحكومي في زمنه الحالي.المشكلة هي انه لم يعد الإعلام العربي ذاك أداة تواصل وتفاعل ثــــري بين مرسل ومتلقِّ، بل أصبح أداة تأطير ورسم رث للمجتمعات العربية كلَّها، وهنا تكمن المأساة. المشكلة أيضاً هي أن ذاك الإعلام إنقلب إلى حقل دعاية تنشر ثقافة التفكُّك والتمزيق. والدعاية كما وصفها أحدهم بحذلقة تفتح العيون هي ذلك الفرع من فنِّ الكذب الذي يخدع أصدقاءك أكثر بكثير مما يخدع أعداءك. وياليت تلك الفضائيات تنتبه لذلك القول ولمقولة تسند للرئيس الأميركي السابق جون كندي من أن أعظم عدو للحقيقة ليس الأكذوبة المتعمدة المخترعة’ بل الأسطورة المستمرة والمتغلغلة والخيالية’. ونسج الأساطير التاريخية والدينية والسياسية العبثيَّة أصبح ممارسة يومية في حياة بعض الفضائيات.ـ هل تستدعي هذه الصورة البائسة الرُّجوع إلى حالة الإحتكار الرسمي السابقة او الاستنجاد بالقوانين التي تنتهي عادة في بلاد العرب بتكبيل الطيِّب والخبيث على السَّواء؟ الجواب القاطع هو كلاَّ.ذلك أن المجتمع المدني لن يستطيع تكوين رأي عام واع وتكوين مجال عام للإعلام الحر الصادق إلاَ بتوفُّر حرية التعبير والتجمُّع في مؤسَسات مجتمع مستقلَّة ونديُّة لنظام الحكم.إذن ما الحل؟ لا يوجد جواب سحري جاهز، ولكن يمكن طرح أسئلة قد تساعد في إيجاد الحلول.ـ هل يمكن التقليل من عنف لغة الحوارات التي تعبٍّر عن العقل الجمعي الباطن المشوَّش المليئ بالإنفعالات والتخيلات والأوهام الجامحة واستبدالها بلغة عقل الأفكار والمعلومات والتواصل، وذلك حتى لا تصبح اللغة أداة عنف وخصام؟ـ هل تستطيع الفضائيات أن تخلق كياناً طوعياً شبه مهني ومستقل يتفق على وضع ميثاق يحدٍّد مرتكزات وأساليب نشاطاتها الإعلامية بحيث يجنِّبها الوقوع في الشَّطط الذي وصفنا بعضاً منه؟ـ هل تستطيع مؤسَّسات المجتمع المدني السياسية والمهنية والنقابية لعب دور نشط مؤثَّر في حماية المجتمع من الآثار السلبية لمثل ذلك الإعلام، بدلاً من الاعتماد على الحكومات وتدخُّلاتها المليئة بالثَّغرات؟قضية الكثير، وليس الكل بالطبع، من الفضائيات العربية أصبحت مشكلة تستوجب الحل.
 

التعليقات