مصر الكبرى

11:18 مساءً EET

لماذا نقع في نفس الفخ كل مرة؟

أصبح واضحا لكل ذي عينين أنه توجد في الغرب جهات معينة مختصة بأساليب الاستفزاز والتحريض الهادفة إلى الإيقاع بالعرب والمسلمين وتشويه سمعتهم أكثر مما هي مشوهة. إنهم يعرفون نفسية شعوبنا جيدا وبالأخص تلك الشرائح الفقيرة الجاهلة وغير المتعلمة عموما. إنهم يعرفون ردود فعلها العفوية الأوتوماتيكية بعد أن جربوها ودرسوها.

ولذلك يطلعون علينا من حين لآخر بعملية استفزازية لكي نهيج ونثور ونحرق السفارات ويتحقق هدف أعداء العرب والمسلمين. بل «يضحكون في عبهم» عندئذ بعد أن ينجح مخططهم تماما. ثم يقولون للعالم كله: انظروا هؤلاء هم العرب، هؤلاء هم المسلمون، لم يتغيروا ولم يتبدلوا ولن يتطوروا إلى أبد الدهر. إنهم همج رعاع، ودينهم دين عنف وإرهاب، والدليل على ذلك ما ترون.. إنهم لا يقابلون الحجة بالحجة، أو المقال بالمقال، أو الفيلم بالفيلم، وإنما بالقتل والعنف والضرب والهيجان.
والأنكى من ذلك أنهم يقتلون من لا علاقة له بالموضوع! وهكذا يذهب الصالح، أي السفير الطيب، بجريرة الطالح، أي المخرج الشرير. وهذا ما يحز في النفس ويؤلم حقا. هنا تكمن عبثية الأشياء أو مرارة الفجيعة الاعتباطية الإجرامية التي حصلت في بنغازي.
من سمع بهذا الفيلم التافه الحقير الذي أخرجه بعض المتطرفين المسعورين الحاقدين في الغرب يدرك فورا أنه فيلم ينقض نفسه بنفسه وليس بحاجة إلى من ينقضه أو يقول كلمة واحدة فيه أو حتى يبصق عليه. إنه مليء بالأكاذيب والمبالغات التشويهية لشخصية النبي الأكرم إلى حد أنه يفقد كل مصداقية وكل معقولية. ومع ذلك فقد نال شهرة واسعة الآن بفضلنا: بفضل أولئك الجهلة الذين هاجموا السفارة الأميركية في القاهرة، ثم بالأخص في بنغازي حيث قضوا على سفير محترم كان يعشق العالم العربي ويحب ثقافته.
لقد قدمنا لأعدائنا الذين أخرجوا هذا الفيلم الرخيص والقذر أعظم خدمة كان يمكن أن يحلموا بها. بدلا من أن نترك هذا الفيلم التافه يموت في أرضه، رحنا نقدم له أكبر دعاية إعلانية وإعلامية في التاريخ. وأنا أتساءل بكل براءة وبساطة: هل النبي الأعظم بحاجة إلى هؤلاء الهائجين في بنغازي والقاهرة لكي يدافعوا عنه؟ تدافع عنه حقيقته الربانية، وعظمته الإنسانية، ورسالته الخالدة. الأنبياء ليسوا بحاجة إلى من يدافع عنهم أو يحميهم وإلا فليسوا بأنبياء! هم الذين يدافعون عنك وعن البشرية كلها. لو كانت عظمة محمد هشة إلى مثل هذا الحد لانهارت منذ زمن طويل. آلاف الكتب المضادة له والمشوهة لشخصه الكريم ألفت عنه منذ العصور الوسطى وحتى اليوم. أطنان من الشتائم المقذعة وجهت له. ومع ذلك فقد بقيت حقيقته ساطعة، وعظمته صامدة تتحدى القرون.
كذب ممثلو هذا الفيلم ومخرجوه؛ فالنبي الأكرم ما كان شاذا عن الطبيعة السوية، وإنما كان يحترم المرأة ويقدر إمكانياتها ومواهبها في خدمة المجتمع، على عكس هؤلاء الوحوش. وهذه سمة العظماء على مدار التاريخ. لقد كان نبي الفطرة السليمة، ومكارم الأخلاق، والقلب الخفاق بالحب، وكان رحمة للعالمين. أين منه هؤلاء الأجلاف الغلاظ الذين يدعون الانتساب إليه؟! لا علاقة له بهم ولا بتصرفاتهم الفظة التي لا تعرف الرحمة ولا الشفقة ولا تتقيد بقاعدة أو عرف أو قانون «وإنك لعلى خلق عظيم».
يضاف إلى ذلك أنه كان فاتحا على كل الأصعدة والمستويات ولكن من أجل الخير والحق لا من أجل العنف والشر المجاني. بحياته كلها لم يمارس النبي العنف من أجل العنف كما يفعل هؤلاء. ولولا ذلك لما انتشرت دعوته وأصبحت بحجم العالم. لو لم تكن قائمة على الخير والصالح العام لفشلت. لقد وحد الجزيرة العربية روحيا أو عقائديا قبل أن يوحدها سياسيا ويكشف عن عبقرية لا تضاهى على كلا الصعيدين الفكري والسياسي. ثم نفخ الروح في العرب عن طريق نص خالد نزل عليه من السماء، ودفع بهم إلى فتح العالم وتأسيس واحدة من أعظم الحضارات على وجه الأرض وأجملها. وليس الذنب ذنبه إذا كان قومه قد ارتدوا إلى حزازاتهم السابقة وانقساماتهم المدمرة وراحوا يتراجعون ويتقهقرون حتى لأصبحوا في مؤخرة الشعوب بعد أن كانوا في مقدمتها. ولو نهض الآن لأنكرهم وتبرأ منهم أو من متطرفيهم وجهلتهم على الأقل. لو نهض الآن لأدخلهم في الحداثة الحقيقية: حداثة العلم والإيمان، حداثة النور لا الظلام.
أكاد أقول إن هذا الفيلم التافه لا يسيء إلى نبي الإسلام ولا يستطيع أن ينال منه بأي شكل. هناك مثل فرنسي يقول: كل ما هو تهويلي، مبالغ فيه، سخيف ولا معنى له. ولكن يسيء إليه دون أدنى شك هؤلاء الجهلة المتعصبون الذين يزعمون الانتساب إليه أو إلى رسالته، وهو منهم براء. لقد انقضوا على أناس أبرياء ومزقوهم إربا إربا كالوحوش الضارية. الشعب الليبي ليس هكذا في أغلبيته الساحقة، إنه شعب عربي مسلم متصوف روحاني عريق. ولكن هناك مشكلة في إحدى التأويلات الخطرة والخاطئة للإسلام، أقصد بذلك التأويل الحرفي السطحي التوتاليتاري بل التكفيري الإرهابي للدين الحنيف. وكنت قد نبهت إلى ذلك مرارا وتكرارا في جميع كتبي ومقالاتي السابقة. وهي مشكلة أصبحت بحجم العالم أيضا، ولن نخرج منها عما قريب ما دام العرب والمسلمون عموما يرفضون الانخراط في خط الإصلاح الديني أو التنوير الفلسفي، فلا أرى حلا للمشكلة في المدى المنظور.
على أي حال فإن هؤلاء التكفيريين الغلاة شوهوا سمعتنا لأن العرب شعب مضياف يحمي حتى عدوه إذا ما استجار به أو كان في بيته، فما بالك بالسفير الذي هو ضيفك شئت أم أبيت وليس عدوك؟! هذه تقاليد عربية إسلامية راسخة رسوخ الجبال. هؤلاء ليسوا عربا وليسوا مسلمين. نقطة على السطر.

التعليقات