مصر الكبرى

12:16 صباحًا EET

البرلمانيات المدافعات عن ختان النساء في دولة ما بعد الطاغية

ضجّت مصر أخيراً بقضية هجوم الداعية الإسلامي السلفي، عبدالله بدر، على فنانات مصريات وصفهن بـ «الزانيات» و «المنحلاّت أخلاقياً»، وفنانين يشجعون على «الخلاعة» و «ما لا يرضي الله ورسوله»، حتى وصل الأمر إلى الرئيس محمد مرسي الذي استقبل قبل أيام وفداً من النجوم، ويبدو أنه اضطر إلى إنقاذ الموقف بإعلان تضامنه معهم.

وراهناً، تزخر صفحات «فايسبوك» التونسية بملصق إلكتروني تستخدم فيه كلمة «ديغاج» الفرنسية (أي «إرحل»)، التي أُمطِر بها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، مستهل العام الماضي. لكنها، هذه المرة، موجهة إلى حكومة حركة «النهضة» التي تنتهي صلاحياتها في 23 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وإن أشار مراقبون إلى أنه في إمكان تلك الحكومة الاستمرار طالما لم ينته المجلس الوطني التأسيسي من كتابة الدستور الجديد. المهم أن رسالة المعارضين التونسيين تشي بضيقهم بتوجهات يرون أنها «تؤسلِم» نظام البلاد ومعه أسلوب حياة الناس، خصوصاً مع آخر ما جادت به المخيلة «النهضوية» – والأرجح ألا تكون آخرها – أي «التعليم الديني الموازي» بإشراف جامعة الزيتونة.
وقبل هذه الحادثة وتلك، استقطب خبر عن المذيعة الليبية سارة المسلاتي، تداولته صفحات «فايسبوك»، تعليقات المتعاطفين ومؤازري الحريات وحقوق المرأة. لكنه لقي، بين المستنكرين هؤلاء، من يردّه إلى «الربيع العربي» الذي، في رأيهم، أخرج تيارات سياسية إسلامية من مخابئها إلى الفضاء العام، وغالباً إلى سدّة الحكم، وقد يفضي إلى تعميم ثقافة «سترجعنا سنواتٍ إلى الوراء» إذا ما نجح الإسلاميون في قوننتها.
يتحرر هاجس التقهقر هذا، أكثر فأكثر، من خانة الخطاب الهامشي.
«هذا هو الربيع العربي…»، كتبت إحداهن معلّقة على الرابط الإلكتروني لخبر طرد سارة المسلاتي من حفلة تسليم السلطة إلى المؤتمر الوطني العام في طرابلس، بأمر من رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبدالجليل، ليتولى أعضاء في المجلس تقديم الحفلة، ويرتجل عبدالجليل مقدّمة لخطابه المقرر: «نحن نؤمن بالحريات الفردية، لكننا مسلمون ومتمسكون بقيمنا، ويجب أن يفهم الجميع هذه النقطة».
تزامنت واقعة المسلاتي مع خبر اعتقال رئيسة جمعية «حقي» الليبية، مجدولين زكري، إثر مشاركتها في ورشة عمل في بنغازي، بتهمة «التعامل مع منظمة يهودية» تارة، وطوراً بدعوى أن «الجمعية دخلت البلاد بتصريح لإزالة الألغام ثم انحرفت عن نشاطها الرئيس لتنادي بحرية المرأة وتنتقد مفتي الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني». ثم أُفرج عن مجدولين «لعدم وجود أي أدلة تثبت التهمة»، وأكدت الناشطة في صفحتها على «فايسبوك» أن جمعية «حقي» المدافعة عن حقوق المرأة مسجلة في وزارة الثقافة الليبية، وأن زيارة بنغازي كانت تلبية لدعوة منظمة إنسانية دنماركية صرّحت لها الدولة الليبية بالعمل مع 23 جمعية ومنظمة ليبية «لتمكين 20 امرأة في لجنة الستين المسؤولة عن صوغ الدستور».
 جبل الجليد
لفتت قضيتا سارة ومجدولين انتباه كثيرين، لا سيما بعد الانتخابات الليبية الأخيرة التي لم يُحرز فيها الإسلاميون ما أحرزوه في تونس ومصر. وحذّر البعض من الاستهانة بدلالات رأس جبل الجليد، متوقّعين «الآتي الأعظم».
كأن الثورات العربية توصَم، كل يوم أكثر، بمعاداة النساء العصريات، أياً كانت «هوية» الدولة ما بعد الطاغية. قبل سارة ومجدولين، وبَعدهما، قصص كثيرة من بلاد الثورات. بعضها أقسى وأفدح.
أصبحت عزّة الجرف (أم أيمن)، عضو مجلس الشعب المصري عن حزب «الحرية والعدالة»، نجمة قطبي «فايسبوك»: شاتموها والساخرون من جهة، والذائبون في «هالة ورعها» من جهة ثانية، وهي تجود بأغرب ما يمكن أن يصدر عن امرأة في موقعها. دافعت عن ختان الإناث، لأنه «سُترة» (حماية) للفتيات. طالبت بإلغاء القوانين التي يُعاقَب على أساسها المتحرِّشون، لأن «عُري النساء» في رأيها هو سبب تعرضهن للتحرش وبالتالي «لا حرج على الرجال»! وتروّج الآن لحملة تشريعية تهدف إلى تغيير «قوانين الأسرة»… الأمر الذي لا يبشّر بالخير قياساً على ما تقدّم. هكذا، باتت أم أيمن، في عيون كثيرين من شباب الثورة الذين التحق «الإخوان المسلمون» والسلفيون بحركتهم التحاقاً، رمزاً نافراً لصعود «الإخوان» و «أخونة» الدولة والقوانين. فهنا امرأة تتبنّى خطاباً ضد بنات جنسها، تعيد إنتاجه، وقد تنسف ما حققته نضالات مواطناتها طوال عقود مديدة.
كأن المسألة النسوية، ما بعد الثورة، ما عادت تكمن في بناء دولة ترحّب بمشاركة النساء وحرياتهن الفردية على أساس المواطنية، وبلا منّة من عسكر أو حاكم مستبد أو سيدة أولى فاسدة. بل أصبحت في حماية مكتسبات قديمة، والحلم بتوسيع رقعتها. نعم، الحلم… هذا شعور جزء مُعتبر من عقلانيي العرب وعقلانياتهم.
من تونس، إلى مصر وليبيا، واليمن وسورية… يتعزّز توجس بدأ خجولاً مع سلسلة الانتفاضات العربية، السلمية منها والمسلحة، الناجزة والمستمرة. مخاوف كان معظمها يُحسب على مستفيدين من حكّام يتساقطون. وإن علا بها صوت، همّشته حماسة الحرية القريبة، ومعجزة الديموقراطية والحداثة الحقيقية اللتين بدتا ممكنتين بعد طول يأس. إلا أن الشكّ لم يعد خافتاً. بل لعله يستدعي الآن مَن كانوا، حتى ماضٍ قريب، يستخفون بما اعتبروه «إسلاموفوبيا» غير مبررة، مستندين إلى «بروفيل» الشباب الذي صنع الثورات، وإلى تعاضدٍ سادَ ميادين الاحتجاج، فجمع الإسلامي إلى الليبرالي واليساري والقومي والمتديّن التقليدي. لكن هذا الصوت الآن حائر، غاضب، حزين… بل خائف. وهو، في السيناريو الأكثر تفاؤلاً، يناضل لاستكمال ثورة يؤمن بأنها ما زالت في أوّلها.
بالنَّفَس هذا، سارت تظاهرتان حاشدتان في تونس، في 13 آب (أغسطس) الماضي – تاريخ إصدار «مجلة (قانون) الأحوال الشخصية» عام 1956، أي في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. منح القانون هذا، المرأة التونسية، حقوقاً فريدة من نوعها في العالم العربي. جرّم الزواج بأكثر من امرأة، كما الزواج العرفي. منع إكراه الفتاة على الزواج من جانب ولي أمرها. سحب القِوامة من الرجل، وجعل الطلاق في يد القضاء بعدما كان ملك يمين الرجل ينطق به لحظة يشاء. على هذا الأساس ناهض المتظاهرون سعي حكومة «النهضة» إلى تمرير فصل في الدستور الجديد يعتبر المرأة «مكمّلة للرجل»، بدل أن تكون مساوية له في الحقوق والواجبات.
فهل هذه مفاعيل «الربيع العربي» فعلاً؟ أم أن الثورات لم تفعل سوى إعتاق المكبوت؟ أيعقل أن الاستبداد والفساد كانا ضمانة النساء ومشنقة المواطنية في آن؟ هل الشعوب العربية مفطورة على قمع النساء وقضم حقوقهن، ليطفو كل ما طفا بمجرد التحرّر من الديكتاتور؟ وهل القضية جندرية أم سياسية أم دينية – ثقافية؟ أي جوانبها «أصيل»؟ وأي منها مكتسب؟
 … لأنهم «يكرهونهن»؟
تذكّر التساؤلات المفتوحة هذه بجدل أثارته مقالة بالإنكليزية للكاتبة المصرية منى الطحاوي بعنوان «لماذا يكرهوننا؟»، ونشرتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية (عدد أيار/حزيران 2012). وهو جدل يصلح إطاراً للتفكير في إجابات، وتمريناً عليه، وإن لم يشفِ غليلاً إلى «حقيقة» نهائية.
تمحورت مقالة الطحاوي حول فكرة واحدة: الرجال العرب يكرهون النساء: «لا يكرهوننا لأننا نتمتع بحريات، كما أوحى الشعار الأميركي البائس في مرحلة ما بعد أحداث 11 أيلول… بل إننا لا نتمتع بحرياتنا، بالضبط لأنهم يكرهوننا». وتورد الطحاوي أمثلة على ختان الإناث في مصر وغيرها، محتجّة على الافتراض بأن لا حاجة للنساء إلى أي من أنواع الرضا الجنسي، أو أنهن يفتقرن بطبيعتهن إلى وازع ذاتي، وبالتالي فإذا لم تُختن الأنثى، لن يردع «فلتانها» شيء. تضيء على قوانين «متسامحة» مع رجال يضربون نساءهم إذا فعلوا ذلك «بِنِيّة حسنة»، وعلى التحرش في اليمن والمغرب ومصر. تستشهد بتقرير «الهوة الجندرية» (عن المنتدى الاقتصادي العالمي)، لتشير إلى أن أي بلد عربي لم يحلّ بين المراتب المئة الأولى بين 135 بلداً. ترفض الطحاوي ما يقال، خصوصاً في الغرب، عن إشكالية «ثقافية» أو «دينية». إذا كان جسد التونسي محمد البوعزيزي شرارة «الربيع العربي»، فإن المراهقة المغربية أمينة الفيلالي التي شربت السمّ احتجاجاً على إجبارها على الزواج من مغتصبها، والمصرية سميرة ابراهيم التي كانت اول امرأة ترفع دعوى قضائية على إخضاع ناشطات مصريات لـ «فحوص العذرية»، وغيرهما كثيرات، هن الرديف النسائي للبوعزيزي، كما تقول. خلاصة القول إن الإسلاميين كانوا، حتى الماضي القريب، في الموقع السياسي الأكثر هشاشة (مصر وتونس)، لكن: «إفهموا أن هذا الموقع هو الآن للنساء، كما كان دائماً».
في المقابل، هناك ردّ مُدوِّنة تكتفي بتسمية نفسها «سارة». مشكلتها مع مقالة الطحاوي تبدأ من عنوانها: الـ «هُم» والـ «نحن» التبسيطيتان المكتفيتان بتفسير شعوري هو كره الرجال العرب للنساء. ذلك أن البطريركية داء كونيّ له أشكاله المختلفة التي لا تحدّها الثقافة العربية أو الإسلامية، ومعركة النسوية مع البطريركية تتداخل غالباً مع نُظُم قمعية أخرى (كالمعتقدات المطلقة والرأسمالية… الخ)، وليس مع الرجال كأفراد. فثمة نساء يتبنّين الخطاب الذكوري، وثمة رجال لا يميزون ضد المرأة، في حين إن نسويات عربيات كثيرات ناضلن بأعمارهن لفضح قوى تقمع النساء والرجال معاً. كما يسيئها التوجّه إلى جمهور غربي «بأفكاره المنمطّة» كأنما للاستنجاد به. قد تكون منى الطحاوي محقة في بعض ما أوردت. فنتائج صعود تيارات إسلامية إلى الحكم، تتجلّى – أكثر ما تتجلّى – في أجساد النساء وحيواتهن الشخصية والعامة. تجليات مرئية ومحسوسة ومعاشة أكثر من نظيراتها في دوائر السياسية والاقتصاد والإدارة. لكن «سارة» أيضاً لم تخطئ في أن خطاب الطحاوي يعتوره شيء من التبسيط والتعميم، وأن البطريركية آفة تصيب الجنسين لأنها تضرب الشرط الإنساني ومفهوم المواطنية.
لا معنى لكلام جوهراني عن «قطبين»: رجل وامرأة، بل رجل يكره امرأة. تماماً كما أنه لا معنى لكليشيه (إن لم نقل ابتذال) المظلومية المشرقية وعقدة «الغسيل المتسخ» أمام «الأجانب». فذلك غلالة تُرمى على فكرة أساسية: إذا كان صحيحاً أن البطريركية عقدة كونية (لم نرَ حتى الآن رئيسة للولايات المتحدة مثلاً)، وأن التعقيدات الجندرية موجودة في الغرب كما في الشرق (وإن كانت في الغرب أكثر تركيباً وخفراً منها في الشرق)… فصحيح أيضاً أن المجتمعات الأكثر تقدّماً أرست وكرّست وحصّنت منظومة دستورية وتشريعية لرعاية الحريات كما الحقوق والواجبات، والمساواة بين الإناث والذكور، وهذه المنظومة هي التي يحتكم إليها في النهاية متضررون ومتضررات من أي تمييز. ناهيك عن مساحة غربية مفتوحة دائماً للنقاش والتعبير، على عكس غالبية السائد في المجتمعات العربية، حيث مؤسسات الحكم ذاتها، قبل «الربيع العربي» وبعده، ما زالت تتخبط، مع أرجحية للمعيار الذكوري. ولعل موات قانون «العنف الأسري» في لبنان مثال صارخ. لبنان الموصوم/المحتفى به (وفق المتحدث) لتحرره وتعدديته الطائفية في المجتمع ونظام الحكم.
موروث وطارئ
«هذا هو الربيع العربي»، كتبت الصديقة على «فايسبوك» معلّقة على تمييز قمعي تعرضت له حقوقية ليبية، وقد تتعرض له أي امرأة عربية في فصول ما بعد «الربيع». لكن، لنتذكّر أن الاغتصاب كان أداة حرب في يد معمّر القذافي. مَن ينسى إيمان العبيدي التي التجأت إلى فندق يعجّ بالصحافيين لتحكي اغتصابها جماعياً، قبل أن تسحبها قوات القذافي إلى جهة مجهولة؟ بل، وقبل ثورة فبراير بكثير، كانت الليبيات الناجيات من الاعتداءات الجنسية أو المتهمات بـ «جرائم أخلاقية» يوضعن في «مراكز تأهيل» هي أقرب إلى السجون، إلى حين قبول عائلاتهن باستردادهن أو ظهور رجال يقبلون بالزواج منهن!
كذلك في سورية، برز الاغتصاب أسلوباً لكسر الثوار ومحتضنيهم. وفي ظل نظام الأسد «اللاديني»، انتشرت ظاهرة «القبيسيات» (نسبة إلى داعية إسلامية) وارتفعت نسبة الحجاب. سعى النظام، القائم حتى اللحظة على تفرّد أقلية طائفية بمقاليد الحكم، إلى مغازلة أكثرية طائفية، من خلال نشر ثقافة دينية محافظة، حتى أصبحت (إضافة إلى بعض الامتيازات الاقتصادية) تعويضاً عن تهميش الطائفة المحكومة، في الإدارة السياسية والعسكرية. وارتاح النظام في النهاية إلى تثبيت سلطته على أنقاض حماة – 1982 وفوق جثث عشرات الآلاف من أبنائها.
وفي مصر ازداد عدد المحجّبات والمنتقبات أضعافاً مضاعفة، خلال العقود الأربعة الأخيرة، على رغم أن الحكم كان يتداوله عسكريون، لا مشايخ ولا إسلاميون. الانتهاكات الجنسية (من التحرّش إلى الاغتصاب وما بينهما) مشكلة قديمة، بلغت ذروة انكشافها في السجون بُعيد تنحّي حسني مبارك، عبر أفلام وشرائط فيديو انتشرت فيروسياً على الإنترنت. وإذا كان الفقر، وانسداد آفاق الإصلاح السياسي والاقتصادي، من أسباب تزايد الحياة اليومية المصرية أسلمةً، فقد فاقمت السلطة السابقة هذا «اليأس» بترسيخ «طاعة أولي الأمر» مستعينة بمرجعيات وسلطات دينية مؤثرة. والأدهى إسهامات «الصناعة الثقافية»، منذ ما قبل 25 يناير بسنوات، في أسلمة السينما والتلفزيون… من سِيَر الأئمة والدعاة المنتجة بكثرة، وبطلات الدراما المحجّبات المهلّل لهن، وتكريس «الحب النظيف» الذي لا يُعبّر عنه بأكثر من لمسة يد، إلى التحية التي يتبادلها متحادثان عبر الهاتف، فيقول الأول: «لا إله إلا الله»، ليردّ الثاني: «محمد رسول الله»… وكل ذلك، إذا ما قورن بالصناعة السينمائية (منذ فجرها وحتى الثمانينات من القرن الماضي)، وبالصناعة التلفزيونية قبل 30 سنة على الأقل، يبدو زاخراً بالدلالات…
لا حصر للتمارين في هذا السياق، لكن القياس ممكن. مغالط التفكير في الثورات العربية على أنها عجلات قروسطية لسيارة ما كادت تهنأ بطلاء الحداثة منذ الاستقلال. وطوباوي الانتشاء بثورة حقّقت إنجازاً، نعم، لكنها لم تستوفِ نقاشها وبرامجها للمستقبل. فمحرّك السيارة هو الذي يحتاج إلى صيانة، والعجلات لا يستحيل تغييرها إذا ما توافر بديل يحتفظ بتماسكه فوق الحُفر.

التعليقات