مصر الكبرى

02:10 مساءً EET

الثورة وشلل التحليل

فماذا إذا كان الشعب يريد إسقاط النظام
في تونس وفي مصر وفي ليبيا وفي اليمن وفي الجزائر وفي السودان في موريتانيا
وإذا كان الشعب يريد تغير النظام
في ساحل العاج وفي السعودية وفي البحرين وفي سوريا وفي الكويت وفي العراق وفي المغرب وفي الأردن وفي فلسطين ،
وإذا كانت الثورة نص يكتبه الشعب فكيف نقرأه ؟وبأية عدسات وبأية لغة؟
نعم لقد فككت الثورة الواقع وبددت النظام ولكن أين السلطة؟
نص
في السلطة
كلمة "سلطة" هذه يمكن أن يتمخض عنها سوء فهم كبير، سواء فيما يتعلق بتحديدها أو شكلها أو وحدتها.فأنا لا أعنى بالسلطة ما دئبنا على تسميته بهذا الاسم وأعنى مجموع المؤسسات والأجهزة التي تمكن من إخضاع المواطنين داخل نظاما من الهيمنة يمارسه عنصر على آخر ، أو جماعة على أخرى ، بحيث يسرى مفعوله ، بالتدريج في الجسم الاجتماعي بكامله . إن التحليل الذي يعتمد مفهوم السلطة لا ينبغي أن ينطلق من التسليم بسيادة الدولة أو صورة القانون أو الوحدة الشاملة لهيمنة معينة ؛ فهذه ليست بالحري إلا الأشكال التي تنتهي إليها السلطة يبدو لي أن السلطة تعني بادئ ذي بدأ علاقات القوى المتعددة التي تكون محايثة للمجال إلي تعمل فيه تلك القوى،مكونة لتنظيم تلك العلاقات؛إنها الحركة التي تحول تلك القوى وتزيد من حدتها وتقلب موازينها بفعل الصراعات و المواجهات التي لا تنقطع، وهى السند الذي تجده تلك القوى عند بعضها البعض،بحيث تشكل تسلسلا ومنظومة،أو على العكس من ذلك، تفاوتا وتناقضا يعزل بعضها عن بعض؛وهي أخيرا الاستراتيجيات التي تفعل فيها تلك القوى فعلها،والتي يتجسد مرماها العام ويتبلور في مؤسسات أجهزة الدولة وصياغة القانون وأشكال الهيمنة الاجتماعية.إن شروط إمكانية السلطة،أو على الأقل، إن وجهة النظر التي تسمح بفهم ممارستها وإدراكها حتى في أكثر مفعولاتها "هامشية" والتي تسمح كذلك بتوظيف آلياتها كمنظور لفهم الحقل الاجتماعي، إن وجهة النظر هذه لا ينبغي البحث عنها عند نقطة مركزية تكون هي الأصل، وبؤرة وحيدة للسيادة تكون مصدر إشعاع لباقي الأشكال الثانوية التي تتولد عنها؛ وإنما ينبغي رصدها عند القاعدة المتحركة لعلاقات القوى التي تولد دونما انقطاع، وبفعل عدم التكافؤ بينها، حالات للسلطة ولكنها دوما محلية وغير قارة. السلطة حاضرة في كل مكان، ولكن ليس لأنها تتمتع بقدرة جبارة على ضم كل شيء تحت وحدتها التي لا تقهر، وإنما لأنها تتولد، كل لحظة، عند كل نقطة، أو بالأولى ،في علاقة نقطة بأخرى.إذا كانت السلطة حالة في كل مكان،فليس لأنها تشمل كل شيء وإنما لأنها تأتي من كل صوب. وليست السلطة بصيغة المفرد، بما لها من استمرار وما فيها من تكرار وقصور وخلق ذاتي، ليست إلا نتيجة عامة ترتسم انطلاقا من جميع هذه الحركات، وليست إلا الرباط الذي يستند إلى كل حركة فيسعى إلى تثبيتها. لاشك أننا ينبغي أن نعتنق هنا النزعة الاسمية فلا ننظر إلى السلطة على وضعية إستراتيجية معقدة في مجتمع معين. هل ينبغي عندئذ قلب العبارة التي تقول إن الحرب سياسة لاتعتمد وسائل السياسة للقول بأن السياسة حرب لا تعتمد نفس الوسائل؟إذا أردنا أن نبقي على الفصل بين الحرب والسياسة فربما وجب أن نقول ،بالأحرى، إن هذا التعدد لعلاقات القوى يمكن أن يعبر عنه – في جزء منه وليس في مجموعه مطلقا – في صيغة "الحرب"أو في صيغة "السياسة"؛ فهاتان إستراتيجيتان متباينتان (ولكن يمكن لإحداهما أن تحل بسرعة محل الأخرى) لضم علاقات القوة، تلك العلاقات التي يطبعها اللاتوازن والتنوع والتوتر وعدم الاستقرار. بإمكاننا ،على غرار هذا النهج أن نقترح عددا من القضايا: إن السلطة ليست شيئا يحصل عليه وينتزع أو يقتسم، شيئا نحتكره أو ندعه يفلت من أيدينا ؛ إنها تمارس انطلاقا من نقط لاحصر لها وفي خضم علاقات متحركة لا متكافئة لا تقوم علاقات السلطة خارج أنواع أخرى من العلاقات (العلاقات الاقتصادية والعلاقات المعرفية والعلاقات الجنسية)، وإنما هي محايثة لها؛ إنها النتائج المباشرة التي تتمخض عن التقسيمات واللاتكافؤات والأختلالات التي تتم في تلك العلاقات؛ وهي الشروط الداخلية لتلك التمايزات. لاتقوم علاقات السلطة في بنية عليا، ولا يقتصر دورها على الحظر والتجديد، بل إن لها، حيث تعمل عملها، دورا خلاقا. إن السلطة تأتي من أسفل ؛ وهذا يعني أن ليس هناك، في أصل علاقات السلطة وكطابع عام، تعارض ثنائي شامل بين المسيطرين ومن يقعون تحت السيطرة، بحيث ينعكس صدى هذا التعارض من أعلى إلى أسفل، وعلى جماعات يزداد ضيقها إلى أن يبلغ أعماق الجسم الاجتماعي. ينبغي بالحري أن علاقات القوة المتعددة التي تتكون وتعمل في أجهزة الإنتاج والأسر والجماعات الضيقة والمؤسسات تكون حاملا للانقسامات التي تسري في الجسم الاجتماعي بمجموعه. حينئذ تشكل هذه الانقسامات العمود الفقري الذي يخترق المنازعات المحلية ويربط بينها؛ وكرد فعل ، فهي تقوم، بطبيعة الحال بإعادة توزيع تلك المنازعات وتنظيمها ومها وتوحيدها والربط فيما بينها وجمعها. وما أشكال القهر الكبرى إلا نتائج الهيمنة التي تدعمها على الدوام شدة كل تلك المواجهات والمنازعات. إن علاقات السلطة هي ، في ذات الوقت، علاقات قصديه ولا تصدر عن ذات فاعلة، والواقع أنها إن كانت علاقات معقولة، فليس لأنها،بالمعنى العلي، مفعول مستوى آخر، هو الذي من شأنه أن "يفسرها" وإنما لأن هناك حسابات تسري فيها، فلا وجود للسلطة من غير مجموعة من المقاصد والأهداف. ولكن ذلك لا يعني أنها تتولد عن اختيار ذات فردية وقرارها؛ فلا ينبغي أن نبحث عن الهيئة العليا التي تكون مصدر معقوليتها، فلا الفئة الحاكمة، ولا الجماعات التي تسهر على تنظيم شبكة السلطة التي تعمل في مجتمع معين (وتدفعه الى الحركة والعمل). إن معقولية السلطة هي معقولية التخطيطات التي غالبا ما تكون صريحة في المستوى المحدود الذي تتم فيهن وهذه التخطيطات تترابط فيما بينها وتتناشد وتنتشر واجدة دعامتها وشروط وجودها خارجا عنها، فترسم في النهاية تشكلات جماعية: هناك يكون منطق العمل واضحا صريحا كما تكون المقاصد بينة ظاهرة، وبالرغم من ذلك فقد يحدث أن لا يظل هناك من يكون قد تصورها، وأن لايبقى إلا القلة القليلة لصياغتها : تلك هي الخاصية الضمنية للاستراتيجيات الكبرى مجهولة الاسم التي تكاد تكون خرساء، والتي تنسق فيما بين التخطيطات الثرثارة التي غالبا ما يكون "واضعوها" أو المسئولون عنها براء من كل نفاق. حيث تكوم السلطة ،تكون مقاومة. ومع ذلك، أو على الأصح، بسبب ذلك فإن هذه المقاومة لاتقوم خارج السلطة، فهل يجب القول بأننا لابد وأن نكون "داخل" السلطة، وإننا لا "نفلت من قبضتها" ,إن لا وجود لخارج مطلق بالنسبة للسلطة لأننا لابد وأن نخضع للقانون؟أم ينبغي القول بأنه لما كان التاريخ مكرا للعقل، فإن السلطة مكر للتاريخ – وهو المكر الذي تكون له الغلبة؟من يذهب إلى هذا القول يتجاهل الطابع العلاقي لعلائق القوة. إذ لا وجود لهذه إلا بدلالة نقط مقاومة كثيرة. وهذه النقط تلعب في علاقات السلطة دور الخصم والهدف والدعامة والمتكأ. ونقط المقاومة هذه حاضرة في كل مكان من شبكة السلطة. فلا وجود إذن بالنسبة للسلطة لمكان وحيد هو مكان الرفض المطلق – وروح الثورة وبؤرة جميع التمردات والقانون الخالص للثوري. بل هناك مقاومات وهي حالات تنتمي إلى أنواع كثيرة: فهناك المقاومات الممكنة والضرورية وغير المحتملة والتلقائية والمتوحشة والمنعزلة والمدبرة والمستكينة والعنيفة والمتضاربة والميالة إلى الصلح، والهادفة الى مصلحة وتلك التي لا تتوخى هدفا بعينة ، وهذه المقاومات لا يمكن أن توجد ، تحديدا، إلا في حقل استراتيجي لعلاقات القوى. ولكن هذا لا يعنى أنها ليست إلا رد فعل وصدى، إنها تشكل بالنسبة للسيطرة الأساس وجهها الآخر المنفعل على الدوام والمعرض للهزيمة اللامتناهية. لا تنشأ المقاومات عن أسباب مغايرة،ولكن هذا لايعني أنها خديعة أو وعد لابد ألا يوفى به، إنها تشكل الطرف الآخر في علاقات السلطة، أنها ترتسم فيها كالمقابل الذي لايمحي، لذا فهي كذلك موزعة بطريقة لا انتظام فيها:إن نقطة المقاومة وبؤرها مشتتة تختلف كثافة حسب الزمان والمكان، فأحيانا تقيم جماعات وأفرادا لتواجه بصفة نهائية، وتوقظ بعض المناطق من الجسد، وتنعش بعض اللحظات من الحياة وتحي بعض أنواع السلوك والتصرفات ، فهل بإمكانها أن تحدث انفصالات كبرى جذرية، وانقساما ثنائيا هائلا؟أحيانا. ولكن في أغلب الأوقات نجد أنفسنا أمام نقط مقاومة متحركة مؤقتة تقحم في المجتمع صدعا متنقلا، فتعدد وحدات وتضم شتات جماعات، وتحدث انفصاما في الأفراد ذاتهم وتشتتهم وتعيد صياغتهم راسمة عليهم، وعلى أجسامهم ونفوسهم ، مناطق لا تمحي ،مثلما أن شبكة علاقات السلطة لابد وأن تشكل نسيجا سميكا يخترق التراتبات الاجتماعية والوحدات الفردية. وما من شك أن التنظيم الاستراتيجي لهذه النقط هو الذي يجعل الثورة ممكنة مثلما أن الدولة تقوم على ضم علاقات السلطة في مؤسسات. ففي هذا المجال لعلائق القوى ينبغي لنا أن نحاول تحليل آليات السلطة. وبذلك نتحرر من نظام القانون الأعظم الذي طالما سحر الفكر السياسي. وإذاا صح أن ماكيافيل كان من القلائل الذين حاولوا أن يفهموا سلطة الأمير بدلالة علاقات القوة ،فربما وجب أن نتقدم ،على غراره، خطوة أخرى فنستغني عن شخص الأمير في فهم السلطة لنتقصى آليتها انطلاقا من استراتيجية محايثة لعلائق القوة

التعليقات