مصر الكبرى

08:07 صباحًا EET

هل أخذ العسكر ما للعسكر والإخوان ما للإخوان؟!

يخطئ من يظن أن المعركة قد حسمت في مصر في شكل نهائي، لمصلحة الإخوان المسلمين أو القوات المسلحة أو أي طرف آخر. فكل شيء ممكن وكل الاحتمالات ورادة وفق الظروف والمعطيات ووسائل معالجة الملفات الشائكة وحل القضايا الساخنة وإزالة حقول الألغام من طريق مسيرة صعبة ومعقدة تحدد مستقبل مصر لسنوات طويلة.

فقد اختلفت الآراء وتباينت التحليلات والتفسيرات لأحداث وتطورات الأسابيع القليلة الماضية، لكن الأمر المؤكد والواقعي أن أي طرف بإمكانه تسجيل نقاط وليس حسم أي أمر من الأمور القائمة والمطروحة والمستجدة.
فالرئيس محمد مرسي نجح في مقاربة الأمور بواقعية واتخذ قرارات مهمة وخطا خطوات مباغتة فاجأت الحلفاء قبل الخصوم. كما أنه فرض كلمة مصر في محافل دولية وأولها وأهمها مؤتمر عدم الانحياز في طهران، ما أعاد الحديث عن استعادة مصر لدورها المفصلي في قضايا المنطقة برمتها، أو على الأقل وضع اللبنة الأولى لبناء العودة المطلوبة لسد الفراغ القائم وأخطار غياب أو تغييب أقوى وأهم دولة عربية، وإتاحة المجال لقوى إقليمية مثل إيران وإسرائيل وتركيا فرض سياساتها والعمل على التحكم بمصير الشرق الأوسط إضافة إلى القوى الأجنبية التي عادت إلى ممارسة «لعبة الأمم» والتنافس على مناطق النفوذ وتحصيل المكاسب والحصول على «حصة» من تركة ما كانوا يحاولون تحويله إلى «رجل مريض»!
وقبلها مفاجآت القوى والأطراف المصرية والعربية والدولية بصدرو قرار عزل المشير محمد الطنطاوي وقيادات القوات المسلحة وبينهم الرجل الموصوف بـ «القوي» سامي عنان والقضاء على ازدواجية السلطة بين الجيش والرئاسة بإنهاء صلاحيات ومهمة المجلس العسكري الأعلى التي تولاها إبان ثورة ميدان التحرير عقب تنحي الرئيس حسني مبارك.
وقد اختلفت الآراء حول هذه الخطوة الصاعقة. فمنها من اعتبرها انقلاباً رئاسياً احترازياً قلب فيه المائدة على العسكر، ومنها من رأى أنها ضربة معلم ولدت ارتياحاً ووضعت حداً للمخاوف من صراع دامٍ يعرف الجميع متى يبدأ ولكن ما من أحد يدرك أو يتوقع متى ينتهي وأي ثمن يدفعه الشعب المصري، لو وقع، لا سمح الله.
وهناك آراء اعتبرت أن الرئيس مرسي قد حسم المعركة لمصلحته ومهد الطريق أمام سيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد البلاد وتحكمه بمفاتيحها وأولها المفتاح الصعب وهو مفتاح الجيش الذي حكم البلاد سراً وعلناً وفي شكل مباشر أو من وراء الستار لأكثر من 60 عاماً.
وذهبت آراء أخرى بعيداً في تخيلاتها لتؤكد أن القرار اتخذ بالاتفاق مع القيادات العسكرية وعلى رأسها الطنطاوي وعنان، ولكن الأيام أثبتت عدم صحة هذه الرؤية، مثلها مثل تواطؤ الرئيس مع قيادات شابة، وضباط من الصف الثاني ضد جنرالات المجلس العسكري وشيوخه بالقيام بانقلاب داخلي فرض الأمر الواقع وأرغمهم على الانصياع للأمر والعودة إلى بيوتهم بأوسمة وتكريم من دون المساس بكراماتهم أو حريتهم الشخصية أو امتيازاتهم وحقوقهم المالية والقانونية والوظيفية تقديراً لخدمتهم لمصر لنصف قرن على الأقل بالنسبة إلى البعض منهم.
بل أن بعض الآراء ذهبت أبعد من حدود مصر بالحديث عن غطاء أميركي للحدث أو تسهيل لعملية العزل، وبالتالي الإفساح في المجال للرئيس مرسي وحزب الأخوان (العدالة والحرية) ليحكم ويدير البلاد بحرية من دون عوائق ولا مخاطر ولا ازدواجية ليس في القرارات فقط، بل بالإجراءات والصلاحيات التشريعية والقضائية.
كل هذه الآراء والتحليلات تدفع إلى التساؤل عن الحقيقة والخبايا والخفايا والأبعاد والنتائج مع طرح أسئلة عن قدرة الرئيس على مواصلة مسيرة الحسم واتخاذ القرارات المباغتة والمفاجئة، وفي بعض الأحيان الانقلابية.
هناك من يقول إن الرئيس تسرع في حرق المراحل وخوض غمار مغامرة غير مأمونة الجانب، فيما يرد أنصاره بأن قراره جاء في الوقت المناسب والأسلوب المناسب، والبديل كان دخول البلاد في حالة فوضى عارمة والاتجاه إلى المجهول وسط ظروف سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية صعبة إن لم تكن كارثية. وأوضاع وصلت إلى حافة الإفلاس ومعها فقر وبطالة وهروب رساميل وأحداث مصيرية في المنطقة.
والواقع، بعد كل ما تقدم يدلنا إلى أن الرئيس مرسي ربح معركة ولم يربح الحرب، وان الأخوان المسلمين نجحوا في لجم الجيش ولكنهم لم يأمنوا انتقامه كما أنهم زادوا من إثارة الشكوك الشعبية والسياسية والعسكرية بنواياهم. كما ضاعفوا المخاوف من وجود خطط جاهزة للتسلل إلى الجيش واختراقه ولو على صعيد القيادات الشابة والدفعات الجديدة من الضباط تمهيداً لأخونته على مراحل بالتدرج.
لكن المسّ بالقوات المسلحة ليس بهذه السهولة لأن مثل هذا الأمر سيدمرها ويدخلها في صراعات وخلافات ما أنزل الله بها من سلطان وينهي آخر أمل للمصريين بالأمن والاستقرار وحماية مصالحهم والدفاع عن ترابهم الوطني ويقدم خدمة مجانية لإسرائيل وكل الطامعين بمصر ودورها ووزنها في المنطقة وفي الدفاع عن الأمن القومي العربي.
كما أن التحليل المنطقي والواقعي يؤكد لنا أن الرئيس مرسي قد خدم القوات المسلحة من حيث يدري، أو لا يدري، وذلك بعمله على إعادة تنظيم صفوفه وإزالة الترهلات والدهون من جسده وهيكلة مؤسساته وضخ دماء جديدة فيها وتولية تيارات شابة لا شائبة عليها ولا مأخذ ولا محاسبة.
فالجيش أصبح اليوم قوة مأمونة الجانب بوجه نقي وصفحة نظيفة بعد أن طوى الصفحات التي شوهتها السياسة وتطاولت على مقاماتها الأحزاب والقيادات وحتى بعض المشاركين في «ثورة يناير» والشباب الذين هتفوا تارة بسقوط المشير، وتارة أخرى بإسقاط المجلس العسكري.
ولهذا يمكن القول إن «ربّ ضارة نافعة» فقد سحبت من كل الأيادي أية ذريعة للتطاول على المؤسسة العسكرية وتم إقصاء معظم قيادات عهد الرئيس مبارك والعهود السابقة الذين كانوا يتعرضون للهجمات. كما أن وزير الدفاع الجديد الفريق عبدالفتاح السيسي له تاريخ مشرف، إذ عرف عنه استقامته وحسمه وشعبيته داخل القوات المسلحة، كما أنه يرفض أي تدخل في شؤونه أو محاولة اختراق صفوفه.
ويقال أن السيسي اشترط لدى تعيينه صلاحيات واسعة تمنحه حرية التصرف وتعيين القيادات الجديدة على رأس القوات البرية والبحرية والجوية وغيرها وفق مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب. وهذا ما أتيح له بالفعل، ما ساعده على اتخاذ قراراته بسرعة ولدت ارتياحاً لدى المصريين وأعادت إليهم الأمل بقدرة الجيش على حماية أمنهم واستعادة دوره المطلوب في عدم التدخل في السياسة إلا في حالات تعرض أمن مصر القومي للخطر أو التهديد.
وهنا بيت القصيد، وهنا أيضاً نقطة الحسم المهمة في كل ما جرى تفسيره للخدمة الفعلية التي قدمت للجيش، فقد انتهت مرحلة اللاتوازن واللاقرار وزالت الهالة الضبابية ومعها الشكوك بإمكان حصول انقلاب أو تدخل الجيش بشكل مباشر. وفي الوقت نفسه لم يعد أمام الجيش أي عائق أو مانع في تحوّله إلى جيش إقاذ لمصر عندما تدق الساعة أو يحين الوقت المناسب في حال وقوع أحداث جسام أو دخول البلاد في حالة فوضى.
وقد يصح القول إن الشعب قد يطلب يوماً تدخل الجيش المنقذ ويرحب به على عكس ما كان سيحدث لو تدخل المجلس العسكري المنحل بقيادة المشير طنطاوي، إذ انه بالتأكيد كان سيقابل بعاصفة من الشجب وتتكالب القوى عليه لإشعال نار ثورة ثانية تطالب بإسقاطه، ما سيؤدي حتماً إلى فوضى واضطرابات ونزاعات دموية وربما انشقاق الجيش بين مؤيد ومعارض.
فقد عاد الجيش المصري اليوم نقياً صافياً بوجه جديد ونظيف التاريخ والصفحات، وعاد معه الأمل ببداية جديدة لأمن مضمون، خصوصاً أن الثقة بقوى الأمن والشرطة قد بدأت تتنامى في صفوف الجماهير التي كانت قد ثارت عليها وتعاملت معها كعدو للشعب. بيد أنها دفعت الثمن غالياً من سمعتها وكرامتها وشرف جنودها الذين كانوا يقومون بتأدية واجباتهم وتنفيذ أوامر وتعليمات من قيادات متهالكة منتهية الصلاحية وعديمة القدرة على معالجة الأمور بحكمة وروية وعدل.
ومن يقول اليوم إن الجيش خسر وعاد إلى ثكناته يجافي الحقيقة، ومن يحسم بأن الأخوان قد حققوا أهدافهم يتمادى في تحليلاته وتوقعاته. فبكل بساطة تم تلميع صورة الجيش وإزالة آثار عهد مبارك ومحو ذكريات أليمة في أيام سوداء عاشتها مصر، فالمعركة لم تحسم بعد، والأيام حبلى بالمفاجآت، وبعدها يمكن الإجابة عن السؤال المطروح وهو: هل أخذ العسكر ما للعسكر، وأخذ الأخوان ما للإخوان أسوة بما جرى في الغرب بعد عصور الظلام ومحاكم التفتيش وتحكم الكنيسة بمقادير البلاد وتم وضع حد للصراع بتطبيق مبدأ: إعط قيصر ما لقيصر واعط الله ما لله. وكفى الله الناس شر القتال والانقلابات والصراعات مع الاعتراف بأنه لا العسكر في وارد التحول إلى قياصرة ولا هم يملكون القدرة على ذلك، نظراً إلى التعقيدات القائمة، ولا الإخوان المسلمون يمثلون الله أو حتى الإسلام بكل قدسيته وعظمته. فهم حزب سياسي يسعى إلى الحكم والممارسة وهناك قوى إسلامية أخرى في مواجهته مثل الأزهر والمفتي والجماعات الأخرى، ثم هناك الشعب المصري وهو في مجموعه مؤمن وملتزم دينياً.
والبديل عن الاتفاق بين العسكر والإخوان هو السير على حافة الهاوية والمضيّ نحو المجهول والأخطار الكبرى. كما أن سيطرة الأخوان على الحكم أي تفردهم في تسيير دفته وتهميش العسكر مصيرها إلى الفشل ومن ثم إلى إضاعة فرصة ذهبية أتيحت لهم، وربما لن تتكرر! فهل تحل الأزمة بأن يأخذ العسكر ما للعسكر ويأخذ الإخوان ما للإخوان ويعم الأمن والأمان وترتاح مصر ولو إلى حين؟

التعليقات