أفضل المقالات في الصحف العربية

10:50 صباحًا EET

تسجيلات «يوتيوب» والأمن القومي التركي

في الوقت الذي سيظهر فيه هذا المقال على صفحات الجريدة، ستكون الانتخابات المحلية الحاسمة قد جرت في تركيا. وقبل يوم واحد من إجراء الانتخابات، كانت هناك قضية أكثر لفتا للانتباه من الانتخابات على الساحة في تركيا، ألا وهي حجب موقع «يوتيوب» (YouTube).

غير أن الجدل المشتعل حول قضية الأمن القومي فاق اللغط الجاري حول حظر مواقع التواصل الاجتماعي وعلاقته بالديمقراطية والحرية.

ودعوني أُعِد عليكم سريعا ما يعرفه العالم أجمع: في صباح السابع والعشرين من مارس (آذار) الماضي، ظهر تسجيل صوتي مسرب يعود إلى الثالث عشر من مارس نفسه، على موقع التواصل الاجتماعي «يوتيوب». ويشير ذلك التسجيل السري إلى أنه جرى عقد اجتماع غير عادي بين أهم الشخصيات الحكومية المسؤولة عن الأمن القومي التركي في مكتب وزير الخارجية لتحديد سياسة تركيا في الرد على الهجمات التي يتعرض لها ضريح مؤسس الإمبراطورية العثمانية، سليمان شاه، الموجود في منطقة في شمال سوريا يسيطر عليها متشددون إسلاميون، ويعد الموقع تابعا لتركيا بحسب اتفاقية قديمة. ضم الاجتماع وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، ورئيس وكالة الاستخبارات القومية، ونائب رئيس أركان الجيش التركي، وأحد نواب وزير الخارجية.

خلاصة القضية أن اجتماعا على مستوى عال من السرية جرى التنصت عليه وتسجيله وعرضه على مسامع العالم أجمع. وبعيدا عن رأي قطاع محدد من وسائل الإعلام المعارضة، كان رأي الجميع في ما حدث أنه «خيانة». وفي حال كان ذلك التسجيل حقيقيا وغير زائف – حتى الآن لم يصدر نفي من المسؤولين الحكوميين في هذا الشأن – فلا شك أن صنع وبث مثل هذا التسجيل يعد أسوأ أنواع الخيانة، حيث يكشف ذلك الأمر عن ثلاث نقاط ضعف كبيرة:

1) تُعد تركيا ضمن الأضلاع الرئيسة الحساسة في الحرب الأهلية السورية. ولدى أنقرة حدود طولها 910 كيلومترات مع دمشق مفتوحة على مصراعيها للاجئين السوريين، وتعد تلك الحدود من النقاط الساخنة في تلك الحرب. ودائما ما يلقي الرئيس السوري بشار الأسد باللوم على تركيا كلما أصابته هزيمة، ولذلك يستغل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) كدرع ومصدر تهديد ضد تركيا. وعليه فإن وقوع مثل تلك المعلومات المهمة، التي وردت في تسجيل «يوتيوب» المسرب، في يد الأسد، والتي تحيطه علما بالخطط الاستراتيجية التي ربما تلجأ تركيا إلى تنفيذها، يمثل خطرا شديدا على الدولة التركية. غير أن الجانب المثير للسخرية في تلك القضية هو أن الأسد، الذي يرتكب واحدة من أسوأ الجرائم ضد الإنسانية، تقدم بشكوى إلى الأمم المتحدة ضد تركيا بشأن ذلك التسجيل المسرب.

2) تبدو صورة رئيس الوزراء ورئيس وكالة الاستخبارات القومية، اللذين يجري استراق السمع لما يقولانه بسهولة، تهديدا مختلفا تماما لأمن تركيا على المستويين المحلي والدولي، حيث إن اختفاء عنصر السرية يوحي بضعف وكالة الاستخبارات القومي، ليس فقط في تركيا، بل في البلدان الأخرى أيضا، وهو ما يرسم صورة أخرى لتركيا، التي تبدو معرضة لكل أنواع الاستغلال.

3) تشير عملية التنصت على وبث ذلك الاجتماع إلى وجود قوة خفية قادرة على التسلل إلى قلب الدولة التركية والعبث كما يحلو لها. وتُعد تركيا دولة على درجة كبيرة من الأهمية الاستراتيجية في محيطها الإقليمي، حيث تشتعل حرب عند حدودها الجنوبية، بينما توجد حالة من عدم الاستقرار عند حدودها الشمالية. كما تشهد تركيا حالة من الاستقطاب الحاد داخل حدودها. فتقع تركيا في مرمى هجمات الأسد، وتعرضت مؤخرا لانتقادات أوروبا وأميركا، بأنها دولة لم تتمكن من القضاء بشكل كامل على منظمة أرغنكون الإرهابية السرية داخلها. ومن ثم ربما يكون من المستحيل بالنسبة لشخص مثل هارون يحيى، الكاتب الذي أكد على خطأ إلقاء اللوم بشكل كامل – باسم الدولة الموازية – على حركة غولن والذي يؤكد على إمكانية امتلاك المؤسسات قدرات مهنية أكبر، وأرغنكون والمخابرات أو جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي، ألا يشارك في نقاش هذا الأمر.

من ناحية أخرى، يشكل حجب «يوتيوب» خطأ كبيرا آخر يلي حظر «تويتر». وأعتقد أنه من غير المجدي منع وصول الشعب التركي إلى التسجيل الصوتي الذي سبق أن ترجم إلى العديد من اللغات وانتشر في جميع أنحاء العالم، والذي وصل إلى الأسد مباشرة من خلال الترجمة العربية. علاوة على ذلك، فقد تمكن الشعب التركي من الوصول إلى موقع يوتيوب مرة أخرى عن طريق وسائل مختلفة في غضون دقائق من فرض الحظر.

هناك العديد من البلدان التي تحظر وسائل الإعلام الاجتماعية: لكن أيا من هذه الدول لا تتمتع بعضوية الناتو، ولم تتقدم بطلب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولم تعدل أي منها دستورها وفق المعايير الأوروبية. لكن فرض المحظورات التي تثير الخوف والغضب في حياة الناس في مثل هذه الأجواء المشحونة ليس بالخطوة التي ينبغي على تركيا الإقدام عليها. فتركيا بحاجة إلى التهدئة، والسبيل الوحيد لذلك يأتي عبر الحريات.

ومن المرجح أن تتواصل الاضطرابات عقب الانتخابات، والطريقة الوحيدة لمنع هذا هي تبني الأحزاب التي حصلت على أكبر عدد من الأصوات لغة تخاطب كل أطياف الشعب التركي للقضاء على حالة الاستقطاب. ويجب ألا ننسى أن الموقف المحافظ الذي يؤيد الحظر سيزيد حالة الاستقطاب، وألا نغفل أيضا حقيقة أن التيار المحافظ في المجتمع التركي والتيار الليبرالي يتركزان على طول الساحل. نحن بحاجة إلى منهجية جديدة في التفكير وتغيير هيكلي قادر على تلبية مطالب الليبراليين في الوقت ذاته الذي يتحدث فيه إلى المحافظين. ويقول الكاتب أنجين آرديك: «يجب أن نعطي رئيس الوزراء إردوغان الفرصة لتقديم مبادرات جديدة لإصلاح العلاقات مع الغرب، والأهم تبني نهج جديد من شأنه تخفيف حدة التوتر»، فدون ذلك لن تهدأ تركيا على الإطلاق.

التعليقات