مصر الكبرى

08:27 صباحًا EET

في الحاجة إلى علم كلام العقل والحرية

على رغم خوضه معارك مجيدة دفاعاً عن العقيدة الإسلامية وأصولها الراسخة في قرونها الأولى، يمكن القول إن علم الكلام الكلاسيكي، بنزوعه إلى التجريد واعتماده على الطابع السجالي، وخوضه في مسائل غيبية مفارقة تعلو على العقل بحيث لا يكون في قدرته التحقق منها صدقاً أو كذباً، قد عجز عن القيام بدور حيوي فعال في الحياة الجوانية للإنسان المسلم.

غير أن هذا العلم يبقى جوهرياً لأي تجديد إسلامي، باعتباره الأكثر تعبيراً عن روح الثقافة الإسلامية، ما يفرض ضرورة تجديده، وبالأحرى بناء منظومة كلامية جديدة تتجاوز المماحكات النظرية الموروثة، خصوصاً حول قضية الذات والصفات، والإشتغال بدلاً من ذلك على المفاهيم التي تعنى بالعقل والحرية والتي نجح في صياغتها باقتدار متكلمو المعتزلة، قياساً إلى النزعة الجبرية الأكثر رجعية من ناحية، والفلاسفة الذين تأثروا عميقاً بالروح اليونانية من ناحية أخرى، وخصوصاً ابن رشد الذي اعتقد، متأثراً بأرسطو في مبدأ ثنائية الحقيقة «الدينية والفلسفية»، كما أبدى اقتناعاً بمبدأي قدم العالم، وعدم شمول العناية الإلهية للأفعال الفردية. وهنا يمكن التوقف عند مفهومين أساسين لدى المعتزلة، يؤسس أولهما للعقل، وثانيهما للحرية.
أما الأول فهو مفهوم «القصدية» الذي اعتبره القاضي عبد الجبار شرطاً لفهم الكلام الإلهي، لكنها ليست تلك القصدية المستنبطة من الكلام ذاته (النص)، بل القصدية النابعة من الفهم العقلي للوجود أو للعالم خارج النص أو اللغة، والمضمنة في «الكون أو الواقع»، اذ يربط الإسلام بين نوعين من الآيات: آيات الله الملفوظة، القرآن الكريم؛ وآيات الله المشهودة أي «العلامات الكونية» التي بثها في الطبيعة والوجود من حولنا وطلب منا تدبرها. وهكذا فإن الأشياء لم تعد توجد في الطبيعة على نحو محايد، بل تصير رموزاً يتحدث من خلالها المؤلف الكلي (الله). إنها «شيفرات» يصير معها الكون كله كتاباً كبيراً من الرموز، لا يستطيع قراءته إلا أولئك الذين يحيون في مستوى الوجود الحقيقي على حد تعبير الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز.
ولعله صحيح أن النوع اللفظي من الآيات، أي القرآن الكريم، يجسد الإرادة الإلهية بصيغة أكثر تعيناً، إذ تشير إلى ما يريده الله بأكبر قدر من الإحكام، قياساً إلى النوع غير اللفظي، أي الآيات الكونية حيث تكشف الإرادة الإلهية عن نفسها على نحو غير مباشر لا يتوافر على إحكام مفهومي؛ فيما الأخيرة تملك ميزة واضحة، إذ بإمكانها أن تخاطب البشر عامة، من دون أي تقييد. كما أنها تثير فينا رغبة التأمل لا ملكة التلقي، ومن ثم تصير معطى مباشراً للعقل لا تستلزم نقولاً ونصوصاً تقوم بدور الحاجز أو الوسيط بين الإنسان والعالم.
وهكذا تتبدى الإيجابية الشديدة لمفهوم القصدية؛ إذ يتجاوز في تجدده، مثلاً، قضية العلاقة بين «المحكم» و «المتشابه»، وما يلزم من تأويل المتشابه، واضعاً العقل مباشرة في مواجهة الوجود خارج النص، محفزاً اياه على البحث عن غايات الله في الوجود، وهي المهمة التي تفرضها مسؤوليته كخليفة على الأرض، لكونه كائناً حياً يحتاج دوماً إما إلى إجابات جديدة عن أسئلة قديمة وذلك من خلال مفهوم التأويل، وإما إلى إجابات جديدة عن أسئلة مستجدة كلية، وهذا ما يتيحه مفهوم القصدية الذي يفتح الطريق تماماً بين بنية النص وحركة التاريخ.
وأما الثاني فهو مبدأ أو نظرية «اللطف»، والتي تمثل مسعى عقلياً يحاول التأليف بين الحضور الإلهي في الكون، وبين الإرادة الإنسانية في التاريخ، أي بين الأمر الصادر عن الله «كتكليف دينى»، وبين السلوك المتولد عن الإنساني كإرادة حية تود الاضطلاع بمسؤولية أفعالها. فالله جعل الإنسان حراً لأنه عاقل في نظر المعتزلة. ولذا كلفه بالتدين، ولكن لم يدعه إلى عقله وحريته وحدهما وإنما أنعم عليه ولطف به، لأنه لا يستهدف من التكليف إلا الحسن بالنسبة للإنسان، وهو ما يحفظ لهذا الإنسان قدرته على الاعتماد على نفسه وعلى السيطرة على حياته وفي إمكانية أن يدخل الجنة بجهده وعمله حيث ارتبط هذا بالاعتقاد في الكفاءة التامة للعقل البشري، أو كما يسميه روسو «القابلية على الكمال»، شرط أن نفهم ذلك الكمال باعتباره القدرة على تحقيق تقدم أخلاقي مطرد في التاريخ، وليس بلوغ حال الإكتمال التي تبرر الاستغناء والاكتفاء، المرتبطين بالحقيقة القدسية المتسامية والمتعالية على التاريخ.
هذا اللطف يبدو بمثابة حلقة وسطى تربط بين الحرية الإنسانية، وبين الهيمنة الإلهية، وثمة حرية مطلقة للإرادة الإلهية، لأن الشخص، رغم استقلاله الذاتي وحريته وقدرته على المبادرة، يبقى تحت تصرف مشيئة الله، وهي مشيئة لا متناهية، ومطلقة، في حين أن الإرادة الآدمية متناهية ونسبية، فطرفا المواجهة، إذاً، غير متعادلين! لكن إرادة الله في الوقت نفسه ليست اعتباطية مخاذلة، كما أنها ليست تخطيطاً مسبقاً ومحتوماً، شأن القوانين الطبيعة، بل إنها حكيمة مدبرة، تعمل حسب نواميس تسمح لكل مخلوق بأن يمارس الحرية والمسؤولية.
ومن ثم تصبح أقدارنا نتاجاً للصراع بين قوتين؛ ثمة قوة خلاقة تتمثل في المشيئة الإلهية، وقوة شريرة منسوبة إلى الشيطان وإن كانت تتموضع في العالم من حولنا أو حتى في داخلنا، في غرائزنا ورغباتنا. غير أن هذه القوى الشريرة لا يمكن لها أن تنتصر في النهاية ولا أن تمنعنا من تأكيد وجودنا الخيّر على الأرض طالما أردنا ذلك وأصررنا عليه وهذا ما يمنحنا الشعور بالحرية رغم كل شعور آخر بالألم قد نتجرعه في السعي إليها، طالما فهمنا هذا الألم أو ذاك الشر ها بمعناهما العميق كجزء من نظام كوني جوهره الخير، لا بمعناهما الضحل كتنويعة على لحن العبث أو العدم.

التعليقات