مصر الكبرى

07:31 صباحًا EET

هل تعجلت جماعة «الإخوان المسلمين» الحكم في مصر؟

ظل «الإخوان المسلمون» طوال تاريخهم، يحرصون على التأكيد على التغيير الداخلي للنفوس وإعادة صياغتها على النحو الذي أراده الإسلام، بإعادة تربية الشخصية المسلمة على نحو متوازن، معتقدين بالربط بين تغيير أحوال المجتمع والدولة وبين تغيير الإنسان، الذي هو عماد كل ذلك، مستشهدين دوما بالآية «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، ومصرين دوماً على أن يكون تمكين القيم الإسلامية في واقع المجتمعات اختياراً طوعياً حراً، حينما تجسد حركتهم هذه المنظومة القيمية أخلاقياً واجتماعياً.

وما فتئ «الإخوان» يتحدثون عن سياسة تتقيد بالأخلاق وتنطلق منها، كانت أداة التعبئة في مشروعهم السياسي دوماً هي إعادة الدين ليكون الموجِّهَ لسلوك البشر أفراداً ودولاً وجماعات، وأن ذلك لا يتأتى إلا بالانخراط في هذا الكيان الدعوي، الذي يربي أعضاءه على مكارم الأخلاق، ويجعلهم في خدمة مجتمعاتهم.
انخرط «الإخوان» في عمل شبكات اجتماعية، أمنت خدمات تعليمية وصحية، من خلال كتاتيب ومدارس ومستوصفات، فضلاً عن لجان امتلكت قواعد بيانات محكمة لخريطة الفقر والمرض في الأحياء والقرى الفقيرة، والتحمت بالشارع وتحركت في المساحة التي غفلت عنها الدولة، عامدة أو ناسية، ونشط «الإخوان» في مواجهة احتياجات الناس، وساهموا في إطالة عمر نظام مبارك بلجم الغضب القادم، عبر دعم شبكات الرعاية والتكافل الاجتماعي، وتسكين احتياجات الناس، ما زاد في شعبيتهم لدى تلك الطبقات التي بحثت عن الدولة ولم تجد سوى دولة «الإخوان»، أو دولة التنظيم الذي كان دوماً وسط الناس وعينه على الحكم.
حسن البنا
ويخطئ الكثير من الباحثين حين يظنون أن حركة «الإخوان» تحولت من الدعوة إلى السياسة بعد مقتل مؤسسها حسن البنا، فهي في الأساس، ومنذ نشأتها، حركة سياسية تستهدف الوصول للحكم ، ليس في مصر فقط بلد المنشأ، بل على امتداد أقطار العالم الإسلامي، من أجل استعادة حلم إقامة خلافة إسلامية من جديد. كان الحكم هو الهدف، وكان التنظيم أداة من أدوات التعبئة وفق فكرة دينية طوباوية تضمن تماسك التنظيم الذي حرص حسن البنا على ألاّ يسميه حزباً، نفوراً من واقع الأحزاب في عصره، والتي توزعت في الولاء بين القصر حيث الملك، والسفارة حيث الاحتلال البريطاني. كما أن واقع هذه الأحزاب وضعف تماسكها التنظيمي وكثرة الانشقاقات في صفوفها، كان من الدوافع التي دفعته -ربما- إلى اختيار وتصميم نسق اجتماعي ديني يحفظ تماسك هذا الحزب السياسي، الذي كان يعده طوال الوقت لتسلم حكم مصر، وإن سماه جمعية أو جماعة.
كان الرهان الأول دوماً للجماعة في مسيرتها هو كسب المجتمع أو الشارع، سواء كان فضاء الدولة والمجتمع مغلقاً بالتضييــــق، فيكون بالتعاطف مع مظلوميتهم التاريخية بالنظر لطبيعة الشعب الذي يتعاطــف مع المظلوم، باعتبار الشعب نفسه صاحب مظلومية ممتدة عبر التاريخ مع حكامه، وبرع «الإخوان» في الإمعان في تقمص هذا الدور الذي انسحب على فترات طويلة من تاريخهم، ما كرس في الوعي الجمعي أن هذه جماعة مظلومة قدمت الشهداء في سبيل ما تؤمن به من مبادئ، وفي حال فتْح هذا الفضاء بهامش متاح للحركة، كانوا بالطبع ينشطون في المساجد وفي الجامعات والمستوصفات ولجان البر، ومن ثم تحريك القاعدة الأكبر من الشارع، الفئات المهمشة التي يسهل كسب ولائها، بخدمات هي من صميم عمل الدولة، التي تخلت عن مسؤولياتها لدولة أخرى كمنت طويلاً في انتظار أن ترث الحكم، وفي ظل غياب أي بدائل لتلك الدولة اللامسؤولة، وتشرذم باقي القوى من جهة أخرى، كان البديل الجاهز هو الذي نظم نفسه وتمرن على العمل تحت مطارق النظام السابق، وفي أي هامش متاح للحركة والنفاذ إلى المجتمع، ولم يتخل قط عن توسيع المسارات التي تجعله على صلة دائمة بالشارع.
وفوجئ التنظيم بإشكالية لم يتحسب لها وهو يُعِدّ المجتمع لقبول مشروعه القيمي. تلك الإشكالية التي تواجه التنظيم الآن وقد آلت إليه مقاليد الحكم، هو أنه تعهد بأن يحكم بالشريعة الإسلامية، وأن مشروعيته مرتبطة بإنفاذ هذا التعهد الذي قطعه على نفسه أمام قواعده، خصوصاً مع تمدد المزاج السلفي في المجتمع المصري على أثر موجات التَّمَسْلُف التي اجتاحته منذ مطلع السبعينات مع الطفرة النفطية، التي مكنت في مصر للنسخة السلفية من التديُّن الإسلامي، مقابل النسخة المصرية التي حافظت على طابعها المميز عبر قرون طويلة.
كان حسن البنا مِن أحرص الناس على ألاّ يحرق «الإخوان» المراحل، لذا كان يكرر دائما مقولته الشهيرة «إن «الإخوان المسلمين» أعقل وأحزم من أن يتصدوا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذه الحال، فلا بد من فترة تنتشر فيها مبادئ الإسلام ويتعلم الشعب كيف يغلِّب المصلحة العامة على مصالحه الشخصية».
«تحويل» شعب مصر
ولعل مِن أبلغ ما قيل في هذا المقام كلمات الدكتور حسان حتحوت، الرمز الإخواني الشهير ممن صاحبوا حسن البنا، حيث كتب يقول: «لو استقبلنا من الأمر ما استدبرنا، وهل تجدي لو، ربما لكنت أنصح «الإخوان» بألا يتعجلوا دخول ميدان السياسة، خصوصاً الحكم، لنترك العظمة للكلاب وننشغل بتحويل شعب مصر كله إلى شعب مؤمن بربه، ليس في العبادات فقط، ولكن في المعاملات والعمق الروحي، فلا يتحرك «الإخوان» والرأي العام معهم، بل وهم الرأي العام». حكمة بالغة، فهل أغنت النذر؟
وفي حال حُسم هذا الصراع في عقل السلطة الجديدة، ومضت في التطبيق الفوري لما يعتقدون أنه الشريعة، تكون هذه السلطة الجديدة قد شرعت بالفعل في صناعة مجتمع منافق، يُظهر القبول بالشريعة واحترام قوانينها، بينما هو في الواقع يتفنن في اختراع الوسائل والطرق التي تمكِّنه من التحايل عليها والهرب من آثارها وقيودها، في استنساخ لتجارب شعوب ومجتمعات نعرفها، فُرض عليها نموذج قسري قبلته مرغمة لتنفجر فيها كل ما نعرفه وما لا نعرفه من أمراض، هي نتاج هذا النفاق الاجتماعي الذي يُحدثه الفصام بين ما تريده الشعوب وتختاره بحريتها، وما يفرض عليها، وفي حال حدوث ذلك نكون أمام مشهد جديد في حياة جماعة بدأت بالدعوة للدين، فإذا بها تتحول من بوابة السياسة إلى فتنة في الدين، وغطاء لمجتمع مشوه لم يعد قادراً على الدفاع عن خيارته الحضارية، النابعة من حريته الكاملة وقيمه المختارة من دون إكراه.

التعليقات