مصر الكبرى

08:15 صباحًا EET

في رحيل ناشر.. دروس صحافية

حين يتجه المرء لزيارة جريدة الـ«نيويورك تايمز» في الجادة الثامنة على الجانب الغربي من وسط مانهاتن، لا يسعه أولا إلا الإعجاب بناطحة السحاب التي صممها المعماري رينزو بيانو عام 2000، ولكن ما إن يدلف إلى المبنى حتى يكتشف أن الجريدة موجودة على مبنى ملحق في الخلف يتكون من طوابق عدة مفتوحة على بعضها، وتتوسطه حديقة اصطناعية جميلة، يقضي فيها بعض الموظفين ساعة الغداء. سألت مرافقتي، وهي سيدة خمسينية غاية ما تكون في الإتيكيت والمهنية الصارمة، عن المبنى، فردت بأنها تفضل المبنى القديم، لأن المقر الجديد وإن بدا جذابا من الخارج، إلا أنه من الداخل يبدو وكأنه مقر لشركة تأمين.

سألتني بدورها من أين؟ وما إن علمت حتى قالت إنها كانت مع زوجها في السعودية لعقد من الزمن خلال الثمانينات حين كان يعمل في أحد مشاريع «أرامكو» النفطية.
أمام مكتب رئيسة التحرير التنفيذية للجريدة، هناك بورتريه كبير للناشر السابق آرثر سولزبرجر (1963 – 1997)، يقول لي مدير التحرير: قد لا يكون موجودا اليوم بيننا، ولكن لن تجد أحدا هنا من المحررين الذين عاصروه إلا ولديه حكاية معه. هل تعلم أنه حين اقترح توسعة ملاحق الجريدة لتشمل الموضة والرياضة، والفنون، امتعض المحررون لأن ذلك من شأنه أن يؤثر على سمعة الجريدة كمصدر رئيسي للأخبار الجادة. قال لهم «بنش»، وهو لقب آرثر: «كل الأخبار التي تقرأ.. جادة ومهمة».
في الساعة الواحدة من ظهر كل ثلاثاء، يجتمع رئيس قاعة الأخبار (newsroom) وهو شاب في بداية الثلاثينات، ومساعدته بالمحررين الشباب في اجتماع «تقليدي».. غير رسمي يسمى «brown bag lunch»، حيث يحضر المحررون والمتدربون الشباب ساندويتشات الغداء، ليتحدثوا مع إدارة التحرير عن أبرز المواضيع التي لم تتمكن الجريدة من تغطيتها، أو تلك التي يشعرون أن الجريدة أحسنت أو أساءت التقدير في معالجتها. ويتضمن اللقاء أيضا معلومات تقدمها إدارة التحرير عن أبرز المواضيع قراءة على موقع الجريدة، ويجيبون فيها عن أسئلة المحررين – وكذلك الزوار – حول سياسة التحرير في الجريدة، ورأيهم في الأفكار التي يرغب المحررون في تعقبها والكتابة عنها.
تعقد الجريدة اجتماعين أحدهما في الصباح برئاسة رئيسة التحرير التنفيذية، ويشمل رؤساء الأقسام وكبار المحررين والصحافيين العاملين في الجريدة، وبعد الظهيرة يعقد اجتماع آخر لمديري التحرير وكبار محرري القسم الإخباري، ويشارك فيه مديرو المكاتب المنتشرة حول العالم، وكبار المراسلين الذين يشاركون عبر خدمة «سكايب»، أو عبر أجهزة الاتصال الفضائي من أماكن وجودهم على جبهات الحرب – في سوريا مثلا – وعند الخامسة ينعقد الاجتماع الأخير للصفحة الأولى (front – page)، وبحلول الساعة التاسعة مساء تكون الطبعة الأولى للجريدة قد بعثت إلى المطابع.
لا شك أن نموذج الـ«نيويورك تايمز» من النماذج العالمية المميزة، وهي مضرب المثل في الصحافة، ولكن هناك مشكلة في التعاطي مع هذه الصحيفة – ومثيلاتها – بين صحافيي المنطقة، وهي أنهم يتعاطون معها وكأنها مؤسسة مجتمع مدني، أو هيئة حقوق إنسان عالمية، مهمتها كشف الفضائح الأخلاقية والظلم حول العالم. ولكن الحقيقة هي أن مؤسسة الـ«نيويورك تايمز» وغيرها، هي مؤسسات ربحية في المقام الأول، وما لا يدركه الكثيرون أنها مملوكة لعائلة سولزبرجر – مثل غيرها من العائلات المالكة للصحف – وأن تلك العائلة تمكنت من الاستثمار في مجالات إعلامية أخرى – ضد رغبة الصحافيين الذين كانوا يعتبرون ذلك انحرافا تجاريا عن رسالة الصحيفة – وهي اليوم لديها مجلس أمناء يرعى سياسة الجريدة من أن تتضرر بتقلبات الصناعة الإعلامية، لا سيما تقلبات سوق الأسهم التجارية.
خلال الأسبوع الماضي، توفي آرثر سولزبرجر الناشر السابق، وقد كان لافتا احتفاء الصحف والمجلات الأميركية بتاريخه وأثره على الصحافة الأميركية. فقد أفردت جريدة الـ«واشنطن بوست» المنافسة صفحة كاملة لنعي الناشر الراحل، الذي كانت له بصمة واضحة على صناعة النشر في أميركا. وفي افتتاحية خاصة، كتبت الجريدة في اعتراف مهني: «بعض من إرث سولزبرجر هو أنه حافظ على تميز الـ(نيويورك تايمز)، حيث وضع أسسا أنقذتها من موتها المالي المحتوم في نهاية السبعينات» («واشنطن بوست» 2 أكتوبر 2012).
لقد ورث سولزبرجر الجريدة عن جده لأمه وهو في سن السابعة والثلاثين، ولولا إصرار أمه على أن يكون الناشر لذهب المنصب إلى مجلس وصاية. لم يكن سولزبرجر صحافيا، ولكنه كان إداريا ناجحا، فقد استطاع خلال ترؤسه للجريدة أن يطرحها كشركة مساهمة في نهاية الستينات ضد رغبة صحافييه «المثاليين»، ومن موازنة تقدر بمائة مليون دولار استطاع أن يضاعف الرقم لتتجاوز شركة الـ«نيويورك تايمز» 2.5 مليار دولار بنهاية التسعينات، حيث استثمر في شركات دعاية واستحوذ على محطات تلفزيونية وإذاعية، وشركات أخرى مكنت الصحيفة من أن تحافظ على مستواها حتى في الأزمة المالية الراهنة.
في روايات عديدة كتبت عنه، يقول محررو الجريدة إن «بنش» لم يكن يتدخل في إدارة التحرير، كانت لديه آراؤه، وفي بعض الأحيان ينزعج مما ينشر فيها، ولكنه في الوقت ذاته حافظ على مسافة منها، ليمنح محرريه الحرية في التفكير والاجتهاد. حينما كان يحضر بعض اجتماعات التحرير كان يتفقد أجهزة التكييف، وينشغل بالاهتمام بمشاكل الإنتاج والتوزيع مع العاملين الصغار.
حينما قررت الجريدة نشر أوراق البنتاغون السرية حول حرب فيتنام في عام 1971، تعرضت لضغوط من البيت الأبيض، حاول «بنش» ثني المحررين عن قرارهم، لأنه كان يخشى – وهو المحارب السابق – أن يؤثر ذلك على الجنود في المعركة، وحينها سألهم: هل هناك ما قد يؤثر على جنودنا؟ قيل له لا، فنشر الأوراق بعد أن خاض معركة قضائية ضد الإدارة الأميركية وكسبها.
ولكن حين حققت الجريدة سبقا في نشر الأوراق، وساهمت مع الـ«واشنطن بوست» في نشر فضيحة «ووترغيت» ضد إدارة الرئيس نيكسون، أحس الناشر الذكي أن محرري الجريدة قد أصابهم العجب والاعتداد بالذات، فقام بتعيين ويليام سافير – كاتب خطابات نيكسون – وهو صحافي محافظ، في خطوة صادمة للمحررين الذين حاولوا عزل وتجنب الوافد الجديد. أحس «بنش» بما يتعرض له سافير، فذهب إليه مرة في مكتبه وبيده إطار لصورة جده أدلوف أوكس فعلقها على جدار الغرفة قائلا له: «أردت أن تحس بأنك في بيتك». لقد مضى سافير ليحصد ثلاث جوائز بوليتزر للصحافة من بين ثلاث وثلاثين جائزة حصلت عليها الجريدة في عهد سولزبرجر الأب.
أيضا، حاول «بنش» أن يعطي صحافييه درسا في الاهتمام بآراء القراء، فحين لاحظ عزوف محرري الجريدة عن الاهتمام بمشاكل ووجهات نظر قرائه، بدأ في إرسال رسائل لبريد القراء باسم مستعار تحت اسم «آي سوك»، حتى انتبه المحررون لذلك فبدأوا بمراعاة آراء ومواضيع القارئ العادي، ومع أنه لم يكتب بعد ذلك، إلا أن كل محرري الجريدة كانوا يهتمون بما يرد في بريد القراء، خشية من أن يكون الناشر قد كتب هذه الرسالة أو تلك.
نموذج سولزبرجر الناشر مهم لمنطقتنا، حيث تتعاطى الصحافة إما كمؤسسات حكومية، أو معارضة لا تتورع عن لي الحقائق لأهدافها السياسية. هناك خيط رفيع يفصل ما بين الصحافة المسؤولة وتلك التي تتحول إلى أبواق إعلامية لهذا النظام، أو تلك المعارضة المسيسة. لا تكاد توجد مجالس أمناء منفصلة تحافظ على هوية الجريدة، ورسالتها الصحافية، وفي ذات الوقت مستقبلها كصناعة تجارية ناجحة، وهو استثناء يحسب لناشري هذه الجريدة «الشرق الأوسط» – وقليل غيرها – ممن حاول الاستفادة من تجارب ناجحة كالـ«نيويورك تايمز».
الصحافي الجيد بإمكانه أن يصنع مادة صحافية جيدة، ولكن من دون ناشر متمكن من الصناعة الصحافية والإدارة المالية الذكية، لا يمكنك صناعة صحيفة ناجحة. يقول آرثر سولزبرجر: «حينما تشتري الـ(نيويورك تايمز) فأنت لا تشتري الأخبار.. وإنما الحكم عليها».

التعليقات