مصر الكبرى

12:23 صباحًا EET

مَن يرغب في الكلام؟

…لا أحد! فقد اسـتُهلك كـل كلام، تحليلياً كان أم متأسياً. وبين ضياع وعجز، أو عدم اكتراث، تبدو سورية كالمصاب بمرض عضال، بل أسوأ، حيث لا يتمكن أحد حتى من تخفيف الآلام، إن لم يكن درء المصير المحتوم. من يقوى على رؤية دمار حلب المنسوجة عبر التاريخ، تستحضره أسماء أحيائها وملامحها. من يقوى على رؤية حفلة القتل العام المجنونة: تقصف «السلطة الحاكمة» التي لم تعد حاكمة (بمعنى أنها فقدت السيطرة على الأرض وعلى أعصابها ومسلكها معاً) المدن والقرى بالطائرات، فيُرَد عليها بالمكامن والتفجيرات؟ مشاهد الجثث أضحت معتادة، وما عادت تثير الحزن ولا حتى الاشمئزاز. هي حالة «الإشباع»، التي تترتب عليها نتائج سياسية متناقضة، أحد أطرافها أنها تسقط حدود القتل وحرمته، لكن الأهم فيها أنها تُسقط وظيفة التخويف أو إثارة الرعب المرتبطة بإدراك الجماعة أن الموت يتهددها، ما يُفترض به أن يلجم تلك الجماعة أو يُخضِعها.

ولكن، على رغم هذا الإنهاك، ثمة ظواهر مثيرة للاسـتغراب. أولاهـا وأخـطـرها، مراوحة مواقف قوى المعارضة الـسورية، على اختلاف أشكالها، في ما يشبه الدائرة المفرغة: إسقاط النظام أم القبول بمبدأ التفاوض معه؟ والاحتمالان مجرَّدان، لا دلائل على إمكان تحقق أي منهما في الغد، وهما بهذا المعنى ذهنيان. وعلى رغم ذلك الاستعصاء الجلي والمأزقي، أو ربما بسببه، لا يمكن اعتبار ما يدور نقاشاً (لأن النقاش تواصل وتبادل وتفاعل)، بل تكريساً للقطيعة القائمة بين تلك القوى، وفي داخل كل تيار منها. يترافق ذلك مع مقدار كبير من الشتائم المقذعة والتخوين. فيغدو مثلاً «كافراً» كلُّ من لا يبدأ كلامه بتلك العبارة التي تشدّد على «إسقاط النظام ورحيل بشار الأسد»، من دون أن يكلف القوم أنفسهم تفصيل الخطة والتكتيكات الكفيلة بتحقيق الغاية، عدا شدة العزم وإعلاء الصوت. هذا بينما دعاة الاحتفاظ بموقف الانفتاح على التفاوض لا يذهبون في موقفهم إلى أبعد من سويته المبدئية… أي، هم الآخرون لا يكلفون أنفسهم عناء بلورة الخطط والقوى التي يمكنها أن تخدم ما يقولون.
ومن المدهش أنه بعد سنة ونصف سنة على العصف الرهيب الذي يطحن سورية، لا طرف يطرح أي مراجعة لسياساته. الذين كانوا يَعِدون أنفسهم والناس، في تصريحات وخطب عصماء، بسقوط النظام «خلال أسابيع» أو «في رمضان المقبل» (رمضان 2011)، ويواجهون باستنكار عنيف وتشكيك من كان يقول إن ذلك مستبعد، معتبرين أنه- بتقديره هذا- «لا يريد» إسقاط النظام أو أنه يدافع عنه، هؤلاء لم يراجعوا ولو بنصف كلمة ما قالوه، ليس إنصافاً لمخالفيهم في الرأي أو في التقدير، بل سعياً وراء فهم هذا الذي يجري، للاستفادة من الفهم في الفعل. وبالطبع، من النافل محاجّة مقولات النظام وأهله عن «سحابة الصيف العابرة»، فهؤلاء، على رغم مخالبهم، هم ماضي سورية وليسوا مستقبلها.
لعله ليس ترفاً الانكباب على محاولة تفسير أسباب وجود هذا الطغيان للتجريد الذهني، المتصاحب مع الخلط بين الرغبات واشتراطات الواقع، مع خلط ثانٍ بين التقدير والموقف على الفكر السياسي السوري المعارض، والذي يُفترض أنه يقود ويخوض صراعاً مصيرياً في غاية القسوة. لعل ذلك يسمح ساعتها لقوى التغيير بأن تعي نقاط ضعفها، وتشويهات تكوينها، خصوصاً النواقص في تفكيرها، ما قد يحقق نقلة في قدراتها السياسية والعملية.
لعل ذلك يسمح بتجاوز نقيصة أخرى لا يمكن إلا أن تشد الانتباه، وهي مقدار النزوع إلى الذاتية في الوسط السياسي، وهي ذاتية منشئة لصراعات عبثية، وللعجز خصوصاً عن تحقيق توافقات سياسية. هناك تشظٍّ بل تذرر مخيفان، هما جزء من مشهد الخراب العام القائم.
وكمثال، ما جرى منذ أسبوعين معبّر عن تلك الوضعيات وعن مقدار التبديد السياسي. فقد تمكنت «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي» من الدعوة إلى مؤتمر عام لمناقشة سبل التغيير، وذلك في دمشق نفسها. وهي استفادت، ولا شك، من حاجة النظام إلى تسجيل نقطة لمصلحة «انفتاحه»، في وجه الضغوط الدولية، التي رافقها في هذا المثال ضغط روسي – صيني – إيراني، لعله علامة على بدء إدراك هذه الأطراف أن الأمور لن تُحل بقوة السحق العاري الممارَسة. راهن النظام حين وافق على عقد المؤتمر- ولو بسبب الضغوط تلك- على قدرته على تشويه الحدث بأشكال متعددة، فيقطف ثماره ويطوي صفحته بلا أثر. لذا، اعتُقل الدكتور عبدالعزيز الخيّر، وهو محرّك المؤتمر وأبرز شخصياته. والخيِّر على ذلك مناضل معروف، أمضى سنوات طويلة في الاعتقال، وينتمي إلى واحدة من أهم عائلات الطائفة العلوية. والميزة الأخيرة مزعجة جداً له. ثم ألحق هذا المؤتمر بآخر من هندسته الكاملة، سمّاه «مؤتمر المعارضة الوطنية»، وحضره أيضاً المندوبون الروس والصينيون والإيرانيون الذين كانوا وعدوا الـسلـطة بذلك مقابل إقناعها بقبول عقد المؤتـمر الأول. تعالـت في سائر المعارضة صيحات الاستـنكار والـتخوين للمشاركين في مؤتمر هيئة التنسيق، باعتبار أنه «يجدد شرعية النظام»، وأنه لا يعقل أن يـطالب برحيله هكذا بكل أمان، ما يعني أن هناك سراً خفياً! (وهذا مزيج من منطق قطعي، عشائري، ومنطق المؤامرة).
نقاش جدوى عقد مؤتمرٍ من هذا النوع مشروع بالطبع، وإنما لكي يكون مثمراً، يُفترض أن يبدأ من النقطة التي تلي البديهيات المبدئية والذهنية، المجرَّدة مجدداً: هل في عقده تغيّر ولو طفيف في مواقف حلفاء النظام، هل يمكن هذا الانزياح، لو تحول إلى معطى، أن يعبر عن شيء آخر يحفر في الواقع، أم هو مجرد احتيال على طريقة «نمد يداً للمعارضة ونمد باليد الأخرى النظام بالسلاح والخبراء». هل موافقة النظام على عقد المؤتمر وفي الوقت ذاته اعتقال عبدالعزيز الخيّر، علامات على تصدعات داخله وعلى ضعفٍ، ثمة مؤشرات أخرى إليه؟ ما تأثير ذلك في خطط المعارضة، بمعنى ضرورة إدخال هذه المعطيات في الحسبان… وهكذا ألف سؤال.
في الواقع، لفّ الغموض والالتباس الحدث، ففات وبُدِّد بتواطؤ مشترك من النظام وقوى المعارضة.

التعليقات